بعد المشهد البئيس الذي تركته كلمة الرئيس أبو مازن من على منبر مجلس الأمن في المخيال الفلسطيني بمناسبة الذكرى الـ 75 للنكبة، والتي مفادها “احمونا.. احمونا.. ألسنا بشراً.. حتى الحيوان يحتاج حماية!!”، في مشهد مقزز أسقط فيه الرئيس السيرة النضاليةالطويلة لشعبنا في وجه المحتل الإسرائيلي الغاصب، وشطب بتفاهته وقلِّة حيلته السياسية كلَّ إنجازاتنا التاريخية على طول أكثر من سبعة عقود من الصراع بكلِّ ما فيه من ملاحم وبطولات، مما استدعى الفلسطينيون للقول: “يا بتحمينا.. يا بترحل”.
باختصار.. لقد أفلس الرجل سياسياً ونضالياً، ولم يبقَ لديه ما يمكنناالمراهنة عليه في قيادته لمستقبل مشروعنا الوطني.. وهذا ما يدفع الكلُّالفلسطيني -اليوم- للتفكير في الخيارات والبدائل لما بعد عهد المثقل بمظاهر الهزيمة والقابلية الاستعمارية والفساد السياسي والمالي،والذي يبدو أنه لن يطول كثيراً؛ لاعتبارات لا تخفى على أحد.
إنَّ قراءة مشهد اليوم التالي للرحيل، فيه شيء من الارتياح الذي طال انتظارنا إليه، إلا أنه لا يحمل الكثير من البشرى على المدى القريب للفلسطينيين، حيث إنَّ الحياة السياسية لشعبنا شبه معطلة، والتكهنات لا تغيب عنها إسرائيل ودورها في التأثير على شخصية الرئيس القادم أو شكل الحكم الذي يروق للاحتلال فرضه.
وعليه؛ فإن هناك ثلاثة قوىً أخرى مرشحة غير إسرائيل للعب دورٍ في صياغة مشهدية الحكم والسياسة ما بعد الرئيس، وهي: أولاً؛ حركة حماس باعتبار ما هي عليه من شرعية انتخابية وقوة وإمكانيات عسكرية في الميدان، وما تتمتع به من حظوة والتفاف شعبي في الضفة الغربية، وحضور نسبي متميز في قطاع غزة، وإن كان الجوار العربي الرسمي يُفضِّل تحجيم دورها لحساب خيارات بديلة يُمكِّنه التحكم في إدارتها والتعامل معها بشكل أكثر أريحية من حركة حماس أو التيار الإسلامي العريض الذي تمثله.
إن معضلة حركة حماس أنها تمثل شوكة في حلق الاحتلال، وأنها حركة مقاومة إسلامية لا يرتاح الغرب وبعض دول المركز العربي في التعامل معها.. وهذا ما يجعل فرصتها في تصدر مشهد الحكم والسياسة مشكوك فيه، ولكنها -بلا شك- ستفرض معادلتها السياسيةعلى الجميع “فلا دولة أو حكم بدون حركة حماس”، وهذا ما يجعل مسألة التفكير في الخيارات الأخرى يتطلب مراعاة ذلك بشكل كبير.
ثانيا؛ حركة فتح وما تمثله من تيارات وطنية وأخرى متساوقة مع الاحتلال، إذ لا شكَّ بأنَّ المجموعة التي تمثل “دائرة الرئيس” أو حبله المتين لن تكون مقبولة -وطنياً وإسلامياً- في سدِّة الحكم، ويجب أن تختفي من مشهد المنافسة الوطنية، لتُفسح المجال أمام شخصيات فتحاوية أخرى تمَّ اقصاؤها وشطب تاريخها النضالي لحساب “السحيجية والتُبَّع” من بطانة الرئيس وعهده السياسي العاثر.
هناك أيضاً التيار الإصلاحي لحركة فتح الذي يقوده المعارض محمد دحلان، والذي نجح في فرض حضوره الواسع إلى جانب حركة حماس والجهاد الإسلامي على ساحة قطاع غزة، وتمكن من إيجاد مقاربات مع شخصيات سياسية وتجمعات فتحاوية أخرى انقلبت على الرئيس وأخرجت نفسها من تحت قبضته، مثل التيار الذي يمثله مروان البرغوثي.. كما أنَّ قناعتي أنَّ الكثير ممن هم محسوبون اليوم على تيار الرئيس هم في حقيقتهم “دحلانيون” الهوى، إلا أنَّ ذهب المعز وسيفه المتربص بهم في “مقر المقاطعة” يمنعهم من الكشف عن انتماءاتهم الحقيقية.
ثالثاً؛ الكلُّ الهامشي من اليسار، وهؤلاء على الرغم من تقلهم النضالي تاريخياً إلا أنَّ وزنهم الانتخابي أقل بكثير من حضورهم الواسع في المشهدين الثقافي والإعلامي.. ومن ثمَّ، فإن حضورهم في مشهدية الحكم سيقتصر على المشاركة السياسية وإن كانت بنسبة محدودة ومن باب إثبات الوجود.
السؤال الأهم الآن: ما هي فرص دحلان في الرئاسة؟ وهل حركة حماس ستقبل بخصمها السياسي أن يكون رئيساً للبلاد؟ وما الذي يتوجب على دحلان وجماعته فعله كي يحظى عند الإسلاميين بالقبولوالمزيد من التنسيق والمشاركة السياسية؟ وهل السنوات العشر الأخيرة الذي انفصل فيها دحلان عن الرئيس أبو مازن ومحاولات التقارب والتنسيق مع حركة حماس، عبر الدعم الإغاثي والإنساني لقطاع غزة، كافية لتغيير الانطباع السلبي الذي شكَّلته سنوات سابقة من الخصومة والخلاف؟ وهل تطور وعي الإسلاميين السياسي بلعبة المصالح سيدفعهم لانتهاج مقاربة “خصوم الأمس حلفاء اليوم”، وما تمثله هذه الخطوة من انفراجات لحركة حماس على المستويين الإقليمي والدولي؟!
هذه الأسئلة وغيرها لها إجابة واحدة، مختصرة، وهي: إنَّ دحلان يمثل أحد الخيارات المطروحة، وفُرصهُ إذا ما تعززت العلاقة أكثر مع حماس ستكون هي الأقوى، كما أن أوراقه لدى باقي الأطرافستحظى هي الأخرى بالقبول بشكل أسرع.
وإذا ما أردنا البناء على ما سبق ذكره من قراءة وتحليل، فإنَّ التيار الإصلاحي وحلفائه الآخرين وتجمعات العائدين من حركة فتح بعد رحيل الرئيس سيكون لهم بالتأكيد حضوراً وازناً في مشهدية الحكم والسياسة.
إنَّ المطلوب من دحلان وتياره الإصلاحي الآن العمل على تقديم رؤية استراتيجية وحدوية يمكن أن يلتف خلفها الكلُّ الفلسطيني، أكثر شمولاً مما طرحه دحلان حول فكرة “الدولة الواحدة”، رؤية تتضمنأفكاراً وتصورات واضحة لكيفية تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام، وحول السبل التي يمكن من خلالها جمع الشمل الفلسطيني وفق ديمقراطية توافقية قائمة على الشراكة السياسية في سياق القواسم الفلسطينية المشتركة، وفي إطار رؤية جامعة تجعل من اللقاء بالكلِّ الفلسطيني ضرورة وطنية لا يمكن تجاهلها أو القفز فوفقها، والتأكيد على ذلك من خلال التصريحات والأدبيات السياسية واللقاءات التلفزيونية والحوارات الحزبية والمشاريع التنموية. كما أنَّخيار “الدولة الواحدة” الذي سبق أن طرحه النائب محمد دحلان وآخرون يبقى نقطة مطروحة للنقاش الداخلي والحوار مع المجتمع الدولي.
حقيقة، إنَّ هناك الكثير مما يتوجب قوله والنُصح به للأخ محمد دحلان لتوطيد العلاقة بالإخوة في حركة حماس وباقي فصائل العمل الفلسطيني. نعم؛ قد تكون هناك إشكالية قائمة بين الطرفين دحلان وحماس مرجعها طبيعة التحالفات والاصطفافات والمحاور القائمة في المنطقة العربية والإسلامية، ولكننا نشهد في هذه الأيام تغيرات وتحولات كبيرة في المشهد السياسي العام داخل المنطقة، وهناك تقاربات استراتيجية كتلك التي شاهدناها بين السعودية وإيران وكذلك بين قطر والإمارات، وأيضاً بين تركيا ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي، كما أنَّ علاقة حماس مع مصر تتزايد فيها التفاهمات وحجم التعاون في المجالين السياسي والاقتصادي، وهي بلغة المصالح مؤشرات إيجابية في اللعبة السياسية، وقد تُعجِّل بإيجاد تصورات تعزز من منسوب الأمن والاستقرار، والتفكير بـ”هدنة” تخدم مستقبل الحلّ السياسي للقضية الفلسطينية، حيث إنَّ “الهدنة أو التهدئة” الآن، وخاصةً مع إنشغال العالم الغربي والمجتمع الدوليبالحرب الروسية في أوكرانيا والتوترات المتصاعدة بين الصين وأمريكا حول تايوان. وبناءً على ذلك، فإنَّ هناك مصلحة حيوية لنا في الهدنةوتهدئة الأوضاع الأمنية والعسكرية وخاصة في قطاع غزة، إذ تمنحنا الوقت لإصلاح بيتنا الداخلي وتعزيز علاقاتنا وترابطنا مع عمقنا العربي والإسلامي، وستكون لها تداعيات يمكن اعتبارها إيجابية تتعلق بأن عالمَ ما بعد الحرب في أوكرانيا لن تكون مواقفه بالانحيازالفاضح والظالم، الذي درج عليه المعسكر الغربي الموالي لهذا الكيان الاستعماري الاستيطاني العنصري المسمى إسرائيل.
باختصار.. لا يمكن اليوم تخطي دحلان كمرشح رئاسي محتمل، ولكنمباركة حماس والتوافق معها حول شكل الحكومة وإدارة مشهد الحكم والسياسة هو شرط لا يمكن عض الطرف عنه لمثل هذه المباركة.. أمَّا جوقة الرئيس عباس من المراهنين على وراثته، فإنَّ كلمة شعبنا القوية والقاطعة لهم: اغربوا عن وجوهنا.. فلا مُقام لكم في مشهدنا السياسي القادم.
ختاماً.. قد لا يكون دحلان هو خياري الأول، لحساسية تاريخي الإسلامي وعملي السابق في حكومة حماس، ولكني احترم الرجل وأقدر التزامه الدائم بتقديم الدعم لقطاع غزة، واعتدال خطابه السياسي تجاه حماس؛ باعتبارها مكوِّن أساس في الرأي والمشورة،وحقها في ألا تُقضى دونها الأمور.
إنَّ دحلان وفي ظل اعتراض الغرب وإسرائيل على أيّ شخصية حمساوية في صدارة مشهد الحكم والسياسة، يظل مرشحاً مطروحاً من جهة الأفضلية في المرحلة الانتقالية، حيث إنَّ حقيقة ما عليه الواقع الفلسطيني من تعطل للحياة السياسية وغياب التنافس الحزبيلسنوات طويلة لم يُعطِ الفرصة لظهور شخصيات سياسية وطنية يمكن الاجتماع حولها والتوافق عليها، كما أنَّ الأفق السياسي ما زال مُلبداً بالضبابية والغموض، مما يتعذر معه الآن طرح خيارات أخرى.