رحلة الرجل التائه .. عدلي صادق

بغير انفعال، وبالصبر نفسه الذي لاذ اليه الموالون افتراضاُ والكارهون فعلاً من كاظمي الغيظ؛ نفتش ولا نرى فحوى سياسياً لما فعله محمود عباس عندما توجه الى منزل غانتس وزير حرب وجيش الإحتلال، في جنوبي تل أبيب، وجاءت الرحلة في اللحظة التي وصل فيها هذا الجيش وذراعه الإستيطاني، الى ذرى التغوّل!
   في الحقيقة، لا فحوى سياسياً في لقاء المنزل، بل إن استبعاد السياسة، هو شرط المُضيف، مثلما صرح غانتس نفسه، بعد لقاء سابق في رام الله، في مساء الأحد، قبل سنة بالتمام (أي في 28 ديسمبر 2021). 
  جاءت مُخرجات الزيارة، مثلما دل عليها بيان مكتب وزير الجيش، دون مُخرجات لقاء أي وزير حرب مر في تاريخ الإحتلال، مع مجموعة مخاتير قُرى، إضطروا الى طلب لقاءات مع الحكام العسكريين، لكي يتوسلوا بعض الإنفراجات، وتسهيلات لمصاعب غير إنسانية أصلاً، متجاوزين كل ما في المشهد، من ممارسات القتل ونسف البيوت وتصريحات الضم للأراضي والتثبث بالإحتلال. 
    لكن شكل الزيارة، دون مضمونها، يتجاوز في تأثيراته السلبية، مبادرات المخاتير، لأن هؤلاء يتعاطون مسائل صُغرى، ويركزون على قضايا تفصيلية تتعلق بمناطقهم، ويتركون المسائل العامة لأهل السياسة والنضال الوطني، بل يشترطون على أنفسهم التغاضي عن المسائل الكبرى، حتى لو أراد المحتل مناقشتها معهم. فأقصى ما كانوا يقولونه هو أنهم يحبون “السلام”.
  فلو كان عباس، قطع أي مسافة، في اتجاه أي طرف فلسطيني، ممن جعلهم خصوماً له؛ لجاءت النتائج محملة بإشارات من شأنها فتح أبواب الأمل بدل الإحباط والانسداد، وجعلت المحتلين أنفسهم يفتشون عن خيارات لفتح الإتصالات معه، ولكان التَطَلب، أعلى مستوى في اتجاه السياسة، من تطلبات المخاتير، وتلك وصفة، في التكتيك دون الإستراتيجيا، يمكن أن تعلو كثيراً عن مقاصد االمخاتير. 
  لننظر في حصاد عباس، من الزيارة المعيبة منزوعة السياسة ثم نتساءل: هل المشكلة الآن، تتلخص في تحديث بيانات ستة آلآف فلسطيني، واستصدار تصاريح دخول لرجال أعمال وسيارات مسؤولين، مع بطاقات “شخصيات مهمة”؟!         
  مسألة تحديث البيانات، وهي الجزء الذي يخص شريحة من الشعب، ما يزال ينبعي بحثها في إطار ما يخصها من السياسة، مع طرحها في الإتصالات الدولية، لكي لا يظل الطفل الذي يولد على أرض وطنه، محروماً من رقم وطني، بسبب أن بياناته الشخصية ما تزال في انتظار التعديل الإسرائيلي، ولكي لا يظل الطفل الذي يولد لأبوين ببايانات “معدلة” ينتظر اعتماداً في سجل النفوس من سلطة الإحتلال التي تزعم أنها غادرت غزة وأن غزة هي التي اعتدت عليها. ولكي تكون السلطة في الضفة مسؤولة عن شعبها، دون أن تظل إسرائيل، هي المسؤولة عن تسجيل الطفل، ولا يصدر جواز سفر له قبل اعتمادة في سجل النفوس في إسرائيل.  لقد كانت مثل هذه القيود الإحتلالية، قابلة للنقاس والحل أيام اجتماعات عباس مع تيدي كوليك في بيته. لكن ذهنية مدعي الحنكة، فاقدة تماماً للإحساس بالبعد الإجتماعي للسياسة. أما السياسة نفسها، فهي عنده ثرثرة وسباب منذورين لذر الرماد في العيون، داخل السوق الفلسطينية، دون أن تصلح جملة واحدة  منها، للتفوه في حضرة غانتس وفي بيته. فمن ذا الذي بمقدوره أن يتخيل، أن يقف عباس أمام بيت غانتس في تل أبيب، ليقول جملة مما يقوله عن إسرائيل في مطارح أخرى من أسوق الكلام الذي يستهبل به عقول الناس؟! ومن ذا الذي يمكن أن يتخيل عباس، يطرح في منزل غانتس، قضية أهالي القدس في أحيائهم، أو حقارة إجبار أصحاب البيوت على هدم منازلهم بأنفسهم؟!
  ليست الناس في حاجة إلى الإسهام معها في صب اللعنات على الرجل الذي يعطل السياسة ويضرب الإجتماع والإقتصاد، ويتخذ القرار بمشورة اثنين، واحد لم يكمل تعليمه الثانوي وآخر بلا ثقافة ونديم قمار، بينما رجالات فلسطين في أواخر العهد العثماني، كانوا قبل مئة وعشرين سنة، ممن يحملون شهادات الدكتوراة من جامعة السوربون الفرنسية، ومن مؤلفي الكتب القيّمة، التي تستهدي بها السلطنة الشاسعة.  
 رسالة الرحلة من “المقاطعة” الى جنوبي تل أبيب، موجهة لكل أطراف الطيف الفلسطيني، التي تطاوع عباس كلما دعا الى اجتماع لكي يمارس فيه حنكة مفتضحة. 
  ما يعنينا الآن، هو التركير على هدف التغيير الشامل، وإلا لن يكون هناك أفق. ثم لا معنى للاحتفال بذكرة انطلاقة فتح، والحديث عن “الديمومة” بينما لا شيء يدل على هذه الروح، في أوضاع هذه الحركة اليوم، أو بعد أيام قليلة من رحلة الرجل التائه.