لكلِّ شعبٍ رموزهُ الوطنيةُ الموّحَدة، وعناوينهُ القوميةُ الموّحِدة، العلم الوطني، والنشيد القومي، والزعيم المُحرِر… وقد تتسع الرموز والعناوين لتُغطيَ مساحةً أكبر في العقل الجمعي الشعبي، خاصة عند الشعوب التي تعيشُ مرحلة التحرر الوطني كالشعب الفلسطيني، فامتدادها مع امتداد الزمن، فمن عزالدين القسام وعبدالقادر الحسيني وياسر عرفات وأحمد ياسين وفتحي الشقاقي إلى مروان البرغوثي وكريم يونس إلى محمد الدرة ورزان النجار وصولاً إلى رمضان شلّح، فحين يشتدُ ليل الاحتلال حِلكةً وظلاماً تبقى رموزنا نجوماً يهتدي بها الشعب إلى سواء السبيل وطريق الحرية.
وإذا كان الشعب الفلسطيني بحاجةٍ إلى الرموز الوطنية لتوّحده وتهديه، فهو أشد حاجةً لها في زمن الانقسام والفُرقة، وحين يعزُّ الإجماعُ الوطني يبدعُ الناسُ من رموزهم الوطنية الإنسانية قواسمَ مشتركة تجمعهم وتوّحدهم… هكذا كانَ الأمرُ مع رحيلِ القادة الرموز ياسر عرفات وأحمد ياسين وفتحي الشقاقي، وهكذا الأمرُ مع رمضان شلّح، عندما اختارهُ الفلسطينيون ليوّحدهم في لحظةٍ وطنيةٍ حرجة كانوا بأمس الحاجة إليها، ليمنحوا أنفسهم لحظة وحدة وتوحيد، تُعطيهم شحنةً وجدانية، وقوة معنوية، وطاقة إيجابية، وحماسة وطنية…، فيُضفي عليها من روحهِ قبساً من المهابةِ والجلال، وجذوةً من العظمة والوقار… فكان رمضان شلّح من أولئك الرموز الذين جسّدوا معاني السمو في الغايةِ والوسيلة، وقيم الثباتِ على المواقف والمبادئ، وصفات القيادة المتمسكة بالحقوق والأهداف، وسمات الزعامة المؤمنةِ بالشعب والنصر.
لقد كان أبو عبدالله من الذينَ آمنوا بشعبهم وقدرته على صنع المعجزات وتجاوز التحديات، فالفلسطيني قادر أن يأخذ الريح إلى اتجاه النصر، فبادلهُ الشعبٌ نفسَ الإيمان، ففي حضرة الغياب استحضره شعبهُ في عُرسٍ وطني مشهود، خرج فيه من سجون الحزبية الضيقة إلى فضاء الوطن الواسع، وتحرر فيه القائد الوطني من أُحادية اللون الواحد لرايات الفصائل الحركية إلى تعددية ألوان علم فلسطين الوطني… فلم يُعد رمضان شلّح أميناً عاماً لحركة مقاومة فلسطينية فقط، بل قائداً فلسطينياً، ورمزاً وطنياً، ومُفكّراً ثورياً، وزعيماً وحدوياً، وفارساً شجاعاً… قال كلمته بصدق ورحل، وسجّل شهادته بشجاعة وغادر، وأدى واجبه بمسئولية ومضى، ونصحَ قومه بأمانة وذهب، وأوجع عدوه بقوة وترجّل… وعبّرَ عن ضميرِ شعبه، وروح أمتهِ، ورائحة أرضه، وبرتقال الجليل، وعنب الخليل، وزيتون غزة، وشعر محمود درويش، وأدب غسان كنفاني، وتمرد القسام، وثورة الشقاقي، وجهاد الياسين… وكان نتاج كل ذلك تمسكه بالحقوق الوطنية بقوة لا ضعف فيها، وبوضوح لا غموض فيه، وبمثابرة لا مساومة فيها، وبعناد لا هوادة فيه، وباستراتيجية لا خداع فيها… ففلسطين من البحر إلى النهر، وليست الضفة والقطاع، والقدس الموّحدة الكاملة، وليست القدس الشرقية، والتحرير يتم بالمقاومة والجهاد، وليس بالتسوية والتقسيط.
رمضان شلّح كان واضحاً وحاسماً في مبادئهِ الفكرية ومواقفه السياسية المتمسكة بالحقوق الوطنية الفلسطينية والمعارضة الجذرية لنهج التسوية واتفاقية أوسلو ومُخرجاتها، وكان صادقاً مع نفسهِ وحركتهِ وشعبه، فلم يُشارك في أي مؤسسة سياسية أفرزتها اتفاقية أوسلو أو تحت سقفها، تماماً كسلفه الشهيد فتحي الشقاقي، ورغم ذلك كان خطابهُ السياسي وطنياً محوره رفض نهج التسوية بعيدا عن مُهاجمة الأشخاص وتخوينهم، وإقصاء المُخالفين تمهيداً لشيطنتهم وتجريمهم وصولا إلى سفك دمائهم _وهذا أصل الفتنة والاقتتال الداخلي_، فقد آمن أن الاختلاف مع إخوة الوطن مهما كان كبيراً وعميقاً يبقى في دائرة الخلاف الفكري والسياسي، بالإمكان أن يُحل بالحوار الوطني، ليبقى التناقض المركزي مع العدو المُحتل للأرض، ليواجه بالعنف الثوري والمقاومة المُسلّحة، آمن بالوحدة الوطنية القائمة على كل مكونات الشعب الفلسطيني، و بالشراكة الوطنية المرتكزة على عدم نفي الآخر، ولم يمنعه خلافه مع الزعيم الراحل ياسر عرفات على إنصافه كقائد تاريخي كبير دفع حياته ثمناً لدفاعه عن حقوق شعبه الوطنية.
وكما كان المُفكر رمضان شلّح ضد التخوين السياسي في الإطار الوطني، كان ضد التكفير الديني في الإطار الإسلامي، إدراكاً منه بخطورة مآلاته ونتائجه. فخط بحروف من ذهب وثيقته الفكرية لحركة الجهاد الإسلامي في لحظة تاريخية زاخرة بأمواج الفتن، في كتابه (الأسس والمفاهيم الإسلامية) كاشفاً اللثام عن أساس معضلة التكفير لبعض الحركات، النابع من إيمانها بأنها اوحدها الفرقة الناجية وتمتلك الحقيقة المطلقة بما تمتلكه من تفسير وتأويل خاص بها للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فمن كلماته النورانية في مقدمة الكتاب “لا تزعم الحركة أنَّ هذه الوثيقة تُعبّرُ عن الحقيقة المُطلقة النهائية أو خاتمة فهمها للإسلام، بل هي اجتهاد متواضع في زمن الصراع على الإسلام”، وبهذا الوعي أخرج نفسه وحركته من أُحاديةِ الرؤية، والنظرة الإقصائية، وعقيدة الفرقة الناجية، بما تحمله من مخاطر على المجتمع والأمة، ومؤكدا في نفس السياق رفضه أنْ تُعرّف أي حركة إسلامية نفسها بأنها (جماعة المسلمين) واعتبرها (جماعة من المسلمين)، والفرق بينهما كالفرق بين الموت والحياة.، هكذا كان رمضان شلّح الرمز والفكرة.
أمّا رمضان شلّح المجاهد كما عرفه كاتب هذه السطور من خلال شهادته ومشاركته في إحدى محطات حياته وسيرته الجهادية في النصف الأول من ثمانينيات القرن السابق، وهي محطة عودته إلى الوطن مع رفيق دربه ومعلمه الشهيد فتحي الشقاقي_ الذي وصفه بالجامعة، حين قال في ذكرى رحيله أنه تخرّج من جامعتين في مصر، هما جامعة الزقازيق وجامعة فتحي الشقاقي_ ،وتضمنت تلك المحطة مشاهدَ عديدة امتدت ما بين مساجد غزة خطيباً وداعياً للإسلام وفلسطين والجهاد، وباحات المسجد الأقصى المبارك بالقدس في ليالي القدر مُبشّرِاً بالثورة ومُحرّضاً على المقاومة، وبيوت حارات غزة ومخيماتها- بعضها بحضور المعلم الشهيد فتحي الشقاقي – مُنظّرِاً لنهج الإيمان والوعي والثورة، وزارعاً لبذرة الإسلام المقاوم في فلسطين… وصولا إلى محطة الغُربة عام 1986، مع غربة كاتب هذه السطور بعدها بثلاث سنوات إلى محطة السجن… حتى دار الزمن دورته بعد عشرين عاماً فكان اللقاء في دمشق حيث وصل قطار حياته وجهاده إلى محطة الأمانة العامة ثم إلى مرحلة الغياب.
رحمك الله يا أبا عبد الله، حاولت توحيدنا حياً ووحدتنا ميتاً كما وصفه كاتب تقرير تلفزيون فلسطين عندما كتب يقول: “وحدتنا يا رمضان، أيُّ قامةً وطنيةً هذه التي ترحلُ في زمنٍ صَعُبَ فيه اجتماعنا، ويُحيلنا بموتهِ من انقسامٍ إلى اتحاد، أيُّ رجلٍ هذا الذي استطاع برحيلهِ أن يُعيدَ إلينا الثقةَ بأننا بخير، وأن أخلاقنا الوطنيةِ ما زالت بعافيتها، وأنَّ فلسطين توّحدنا فعلاً وليس شعاراً… استطاع بهذا الرحيل أن يشعرنا بقوتنا ويجدد فينا عنفوان الفلسطينية الواحدة بكل ألوانها، فالكل الفلسطيني نعى قامةً وطنية صاحبة فكر وطني لا قداسة عنده إلاَّ لفلسطين من بعد الله… أخلاقه الوطنية ستظل تُقدّم دروساً في أخلاقيات الاختلاف دون الخلاف على الهدف…”.