روايات إسرائيلية متضاربة حول أهداف اقتحام جنين ومدّته

منذ ساعة الصفر لهجمة قوات الاحتلال على جنين، ترد أحاديث إسرائيلية متضاربة حول سقفها الزمني والعملياتي، في التصريحات الرسمية أو عبر ما يتسرّب من “مصادر أمنية” إلى وسائل الإعلام على حد سواء؛ ما يشي بعمل عسكري لا يتجاوز الاستعراض، وإشباع نهم المستوطنين للانتقام عقب عملية “عيلي”، وإخماد ضجيج الانتقادات لأداء الحكومة الحالية حيال المقاومة في الضفة، إن كانت من قبل أعضائها الأشد تطرفاً أم من أطراف المعارضة، بينما يتصاعد ضجيج آخر في شوارع المدن الرئيسية أيضًا رفضًا لخطط نتنياهو ومعسكره بخصوص المؤسسة القضائية.

آخر هذه التصريحات ورد مساء الاثنين على لسان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي خرج من الاجتماع الأمني المصغّر، المنعقد منذ الظهيرة مع وزير الأمن وقائد الجيش ورئيس الشاباك، ليعلن أن “العملية” ستستمر “حتى تحقيق أهدافها”، مهدّدًا المقاومين الفلسطينيين بالقول: “من يقتل الإسرائيليين فمكانه السجن أو القبر”.

وتطفو من حديث نتنياهو أسئلة جوهرية لا تزال معلّقة منذ إطلاق هذه الهجمة؛ عن طبيعتها وتوقيتها وما يمكن أن تغيّره بالفعل على الأرض، لا سيما بعد نحو عام مما سمته إسرائيل بـ”عملية كاسر الأمواج”، ومما سبقها، وتخللها، من حصار اقتصادي وعزل لجنين وقراها، وهي التي كانت منطلقًا لـ50 هجومًا على أهداف إسرائيلية هذا العام وحده فقط، وفق ما أحصاه جيش الاحتلال.

وما يبرر السؤال في هذه الحالة أن المفردات التي استخدمها نتنياهو جاءت منافية لتلك التي اعتمدها الجيش في بياناته اليوم؛ إذ تجنّب هذا الأخير، بخلاف رئيس الوزراء، وصف ما يجري في جنين بأنه “عملية عسكرية”، كما تجنّب استخدام اسم “بيت وحديقة” الذي صدّرته الصحف الإسرائيلية وسماً للهجوم، واعتمده نتنياهو كذلك في خطابه.

علاوة على ذلك، فقد أصرّ هذا الأخير على أن الهجوم سيسير بلا سقف زمني حتى تحقيق “أهداف” لم يحددها، في الوقت الذي لم تزل تتواتر فيه، منذ الصباح، أحاديث عن قرب انتهاء الهجوم، وآخرها ما نقله مصدر أمني لهيئة البث الرسمية “كان”، بالتزامن مع خطاب نتنياهو، عن أن القوات المتوغلة في جنين ومخيمها ستنسحب غدًا “وربما الليلة”.

الاستنتاج الأخير أن كل تلك التناقضات لا تنمّ إلا عن عبث إسرائيلي مستحكم، وحالة إدراك كامنة بأن هذا واقع لا مناص منه؛ وبين هذه وتلك، يظلّ أقصى ما يمكن لإسرائيل تحقيقه هو الاستعراض أمام جمهور متعطش للدماء

وتنسحب فوضى التصريحات والتصريحات المضادة هذه كذلك إلى الأهداف المعلنة، وتتمظهر تحديدًا بين المستويين السياسي والعسكري. ففي بداية الهجوم، تلقّفت عدّة وسائل إعلام إسرائيلية تصريحًا منسوبًا لمصدر أمني رفيع عن “إنهاء دور جنين كحاضنة للمقاومة”؛ وهي العبارة التي ظهرت بحذافيرها لاحقًا في بيان عمّمه حزب “الليكود” على أعضائه. رئيس الحزب، نتنياهو، وصف العملية بأنها تمثّل” تغييرًا في المعادلة” ضد المقاومة “في المنطقة”، ثم مضى ليضعها في سلّة واحدة مع جولتي العدوان السابقتين ضد المقاومة في غزة، “حارس الأسوار” و”الدرع والسيف”. لكن تصريحات قائد القيادة المركزية الإسرائيلية يهودا فوكس كانت أقل شططَا، إذ حصر أهداف الهجوم بـ”تدمير البنية التحتية للمقاومة، ورفع مستوى حريتنا العملياتية في جميع أنحاء الضفة، وإلحاق الضرر ببنية تصنيع المتفجرات، وبالطبع بالمسلحين”.

لكن حتى هذا الهدف لا يبدو ذا زنة استراتيجية، بالنظر إلى أن الضفة هي بالفعل ساحة مفتوحة لاقتحامات الاحتلال، ليلًا ونهارًا، بالزي العسكري أو المدني، وبتنسيق سافر مع السلطة الفلسطينية، يتجلّى دائمًا عبر انسحابها من نقاط تمركزها قبيل أي اقتحام، ثم تجلى اليوم أيضًا من خلال اعتقال مقاومَين من طوباس أثناء توجههما للدفاع عن جنين غداة التوغل الإسرائيلي. 

وتفضي تلك التناقضات، وكلها حول مفاتيح رئيسية في أي عمل عسكري، إلى أحد هذه الاستنتاجات الثلاثة؛ أوّلًا أن أذرع الاحتلال الأمنية، بما فيها وسائل الإعلام الإسرائيلية، تبحث عن الخديعة والمباغتة على غرار ما درجت عليه في غزّة، لا سيما أن المقاومين الفلسطينيين، كما نقل مراسل القناة 13 الإسرائيلية، تحصّنوا في قلب مخيم جنين وتركوا الوحدات الإسرائيلية أمام خيارات صعبة: إما البقاء في المواقع التي سيطروا عليها في المحيط والانتظار، أو المجازفة بالدخول إلى العمق.

ثانيًا، أن دولة الاحتلال تحاول إدارة هذا العدوان بهدوء، أقله عبر لغة التصريحات، وهذا مشفوع برغبتها في الإبقاء على سائر مناطق الضفة هادئة أيضًا، وعدم الخروج بنتائج عكسيّة تتمثّل في ميلاد أنوية مقاومة على غرار “كتيبة جنين” في مناطق أخرى بالضفة. يضاف إلى ذلك أيضًا ما يتواتر من حديث في أوساط مصالح الأمن الإسرائيلية عن عدم الرغبة في إضعاف القيادة، وهي رغبة مدفوعة بالمصلحة المجرّدة التي يراها هؤلاء في السلطة وأجهزتها الإدارية والأمنية. ويمكن أن نورد، في هذا الإطار، تصريح فوكس، قائد القيادة المركزية إياه، الذي قال “نحن لا نعمل ضد السلطة، بل ضد الجهاد وحماس، إنهم ليسوا أعداءنا”، متحدثًا عن “نوع من التنسيق” بين الطرفين، رغم أن الرئاسة أعلنت، كما العادة، إلغاءه. مصدر أمني آخر عبّر بصورة أكثر صراحة عن الحساسية التي يولونها في تل أبيب للسلطة وصورتها أمام الفلسطينيين، قائلًا في حديث لـ”يديعوت أحرونوت”: “من مصلحتنا ومن المهم جدًا تقويتها وليس إضعافها. نحن نعمل على هذا وآمل أن تسمح الظروف بعد العملية للآليات الأمنية للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى العمل هناك”.

الاستنتاج الأخير أن كل تلك التناقضات لا تنمّ إلا عن عبث إسرائيلي مستحكم، وحالة إدراك كامنة بأن هذا واقع لا مناص منه؛ وبين هذه وتلك، يظلّ أقصى ما يمكن لإسرائيل تحقيقه هو الاستعراض أمام جمهور متعطش للدماء، والإيغال في مأساة الفلسطينيين الممتدة منذ النكبة وما سبقها. دلالة ذلك أيضًا أنه بعد كلّ هذا الإخراج الدرامي للهجوم -أقله من قبل البعض- بوصفه “السور الواقي 2″، والعمل العسكري الأكبر من نوعه منذ الانتفاضة الثانية، و”تغييرًا للمعادلة في المنطقة”، بكلمات نتنياهو نفسه، يخرج الجنرال فوكس ليقول إن هذه الهجمة “ليست غاية بحد ذاتها؛ ستكون هناك سلسلة من الأنشطة هنا. وعندما ننتهي من هذه العملية المحددة، سنعود إلى هنا في غضون أيام قليلة أخرى، وربما في غضون أسبوع آخر”.

على هذا النحو، لم تزل قوات الاحتلال، منذ أكثر من عام، تقضّ الحياة اليومية لأهالي جنين ومخيمها بقصف واقتحام هنا، واعتقال واغتيال هناك؛ ولم تزل جنين وقراها، في المقابل، ترسل مقاوميها وفدائييها إلى الحواجز والمستوطنات وحتى مراكز المدن الإسرائيلية، منذ الشهيد ضياء حمارشة، منفذ عملية تل أبيب في مايو/أيار 2022، إلى الفتى ذي الـ16 عامًا الذي نفّذ عملية طعن اليوم في مستوطنة بني براك بتل أبيب، في ردّ عفوي أول على ما يحدث في مسقط رأسه.

العربي الجديد