زياد النخّالة: لا مجاز في السياسة ..بقلم مثنى خميس

تسلّم زياد النخالة الأمانة العامّة لحركة الجهاد الإسلامي عام 2018، خلفاً واستمراراً للنهج الذي قاده رمضان شلّح ومن قبله فتحي الشقاقي. لكن، خلافاً لسلفيه، لم يضع الرجل -كما يبدو- كتابات نظريّة خاصّة به، بما يُرجّح غلبة الجانب العملي والتنظيمي على شخصيّته. لذا لا تقرأ له، وإنّما تسمعه كسياسيٍّ يتكلّم باتزانٍ عالٍ في مختلف النوازل التي تلمّ بالقضيّة الفلسطينيّة، يُفكّك بلغةٍ واضحة ما استقرّ على أنّه مُسلّمات في الخطاب الرسمي الفلسطيني، بل ويذهب أحياناً إلى توجيه المُقاتلين كما لو أنّه قائدٌ ميدانيّ، فيدعو “كتيبة جنين” مثلاً إلى قطع الطريق على المستوطنين ومواجهة الحواجز وعدم إطلاق النار في الهواء أو على مركبات جيش الاحتلال ليوفّروها للجنود المُشاة.

تنسجم تلك الدعوة مع خلفيته العسكريّة، فقد بدأ ابن مدينة خانيونس طريقه في حركة الجهاد الإسلامي من النشاط العسكريّ تحديداً. بعد اعتقاله على إثر نشاطه ضمن “قوات التحرير العربيّة” بقيادة زياد الحسيني، خرج من السجن وكان بانتظاره المؤسس الشقاقي الذي أوكل إليه مَهمّة تأسيس أوّل جناحٍ عسكريّ للحركة عُرف وقتها باسم القوى الإسلاميّة المُجاهدة “قسم”، والتي صارت فيما بعد “سرايا القدس”.1

عام 1988، أي بعد عام على اندلاع الانتفاضة الأولى، أعاد الاحتلال اعتقاله، ثمّ ما لبث مدّة في سجون الاحتلال حتّى أُبعد إلى جنوب لبنان ضمن سياسة الإبعاد التي كانت تمارسها “إسرائيل” ظنّاً منها بأنّ ذلك يُنهي دور الرجل في مقاومتها. هناك، أصبح مُمثلاً للحركة، حتّى انتُخب عام 1995 نائباً للأمين العام رمضان شلّح. ومن هناك أيضاً، يقود النخّالة اليوم حركة الجهاد الإسلامي، التي سنحاول في هذه المقالة رسم بعض ملامحها عبر مُرافقة جزء من خطاباته وحواراته التي تعود بنا إلى بديهيّاتٍ ضروريّة في مقارعة العدوّ وفهمه، وبالتالي فهم المشهد السياسي الفلسطيني برمّته.

ما لا يسع الفلسطينيّ جهله
“أنا أردّد دائماً أنه يتوجب علينا إعادة قراءة المشروع الصهيوني، وهذا يعني أنّ علينا إعادة قراءة مشروعنا الوطني، لأننا عندما ذهبنا إلى مسار التسوية مع “إسرائيل” فهذا كان يعني أننا لا نعرف ما هي “إسرائيل” ولا ما هو جوهر المشروع الصهيوني”.2

المعرفة هنا شرطٌ لمقاومة العدوّ، وفهمُ طبيعته الكامنة فيه تُخلّصنا من أوهامنا في إمكانيّة عقد تسويةٍ معه، وهذا أساس في فهم مشروعنا نحن أيضاً. يتحدّث النخّالة في باب ما لا يسع الفلسطينيّ جهله، وفي ذلك عودة إلى مبتدأ الأمر وإلى البديهيّ منه؛ من هو العدوّ؟ وكيف نُواجِهُه؟ وعلى ما في هذه الأسئلة من بساطةٍ ظاهرة، غير أنّه جرى تحويرها عبر السنين إلى أسئلةٍ لا ترسم ملامح العداء ولكن تصطنع ظروفاً للصداقة. 

إنّ عدم فهم طبيعة العدوّ والصراع معه يؤدّي إلى حُضنه، وفي كثيرٍ من الأوقات “تحت بساطيره”. تخلق هذه الوضعيّة الضعيفة وهماً يهجس بإحراج “إسرائيل” أمام المُجتمع الدولي. هنا، يرفض النخّالة فكرة الحلول المُقدّمة، وهو ما يقع على النقيض من توجّه الفصائل الفلسطينيّة على ضرورة الاتفاق على “حلّ الدولتين”، بعضها يعتبره حلّاً مرحليّاً كما فعلت حركة “حماس” في تعديلها لميثاقها عام 2017، وبعضها يعتبره أبديّاً كما ذهبت لذلك حركة “فتح”. الذي يقوله النخّالة هو أنّ على الفصائل والفلسطينيين التخلّص نهائيّاً من الانشغال بتقديم الحلول، لأنّ العدو على أرض الواقع مُستمرٌّ في خلق حقائق ماديّة تؤدي إلى تصفيتنا.

بهذا المعنى الذي يُشير إليه النخّالة، تُصبح معرفة العدو مفيدةً بمعرفة الدور المُناط بنا لمواجهته، فإن كان قويّاً، ليس من الحكمة أن أعزّز قوّته عبر تقديم ضعفي له على طبقٍ من ذهب. المُلفت في طرح الرجل، أنّه ينطلق في بناء مبدئيّته التي قد تبدو مُفرطة المثالية من الوقائع الماديّة وليس من الخطابات؛ “إسرائيل” تسعى لِـنفيكَ باستمرار، والدخول في لعبة الحلول معها هو شراءُ وقتٍ بالنسبة لها، وبدلاً من الانشغال بهذه العمليّة اللاسياسيّة على الفصائل استعادة دورها الريادي في مواجهة العدوّ واستنزافه ودفعه إلى حالةٍ من عدم الاستقرار داخل مُجتمعه.

هذه الأنفة المبنية على فهمٍ عميق وبسيطٍ في آنٍ للكيان المُحتلّ، لا تتطلّب إلا تسمية الأشياء بمسمّياتها دون مواربة أو تحوير: هذا الصديق وذاك العدو وهكذا يُواجه، وعودةً صادقة للمُسلّمات في قضيّتنا: هذه “فلسطين ساحة واحدة، وليست ساحات”، كما يقول، ومن يستسلم للجغرافيا التي تفصل بين غزّة والضفة والقدس والداخل واللاجئين، فإنّه يتذرّع حتّى يهرب من استحقاقات يتوجّب عليه دفعها، حسب النخالة.

لا مكان للمُجاملة السياسيّة
“هل ستُخبرون الشعب المجاهد كيف بدأ التنازل خطوةً خطوةً، حتى وصلتم محاصرين في رام الله، لا تستطيعون حتى الكلام عن فلسطين وعن القدس، وإذا تكلمتم تتكلمون عن الشرعية الدولية التي أعطت فلسطين لليهود وطناً قوميّا؟! وأصبحتم تطاردون أبناء شعبكم مقابل أوهام صنعتموها، وأوهام التسوية التي حاصرتم فيها المشروع الوطنيّ ومنظمة التحرير الفلسطينية. وحتى هذه المنظمة أضعتموها بعد اجتماع المجلس المركزيّ الأخير في رام الله! […] والواقع يثبت يوماً بعد يوم أنكم لم تحققوا شيئاً للشعب الفلسطينيّ إلا زيادة المعاناة، وإعطاء شرعية إضافية لهذا العدو في احتلاله لفلسطين”.3

إنّ عدم مُحاباة العدوّ تقتضي كذلك عدم مُجاملة من يُفترض به أن يكون رفيقاً للنضال. بهذا، فإنّ موقف الجهاد الإسلامي من السلطة الفلسطينيّة ومُلحقاتها، مُنسجم مع وضوحه السياسي العام. يُعبّر النخّالة عن ذلك، فيطلب من السلطة الإقرار بأنّ مشروعها في التسوية قد فشل، وأنّها ليست قائدة المشروع الوطني الفلسطينيّ، فهذا ينتمي إلى التاريخ وليس إلى واقع جديد تشكّل من قوى المقاومة. ولا يتوانى عن تسمية المُمارسات التي نتجت عن ادعاء القيادة ومشروع التسوية بالوهم الذي هو على العكس من الحقائق والوقائع الماديّة. ولنأخُذ حالتي الانتخابات الفلسطينيّة و”الانقسام” الفلسطيني مثالاً، لنرى كيف يفهم الجهاد، ضمن توجّهه العام، مثل هذه المسائل في الشأن السياسي الفلسطيني.

من المعروف أنّ موقف الجهاد الإسلامي رافضٌ للانتخابات بكافة أشكالها المُندرجة تحت سياق تداول السلطة ومؤسساتها. فبحسب النخّالة، تبثّ الانتخابات “رسالةً خاطئة” إلى العالم، بأنّنا في فلسطين نحظى بدولة مستقلّة وحرّة نُمارس فيها الاقتراع بشكلٍ ديمقراطي، فيما يغيب البعد الاستعماري من اغتيالات واعتقالات وزرع مستوطنات وحواجز عسكريّة. وفي نهاية الأمر، فإنّ هذه “الزفّة الانتخابيّة”، كما أسماها النخّالة، تُضلّل الناس في فلسطين والعالم، وبالتالي تروّج للنظام السياسي الحالي وخياراته الانهزاميّة.

وعلى الرغم من أنّ الجهاد لم يُشارك في انتخابات عام 1996 وانتخابات عام 2006 لقراءته الواضحة لمسار السلطة، إلا أنّ ذلك لا يُعطي تفسيراً كاملاً لغيابه اليوم عن اتحادات الطلبة في الجامعات وعدم مشاركته في انتخابات البلديّة والنقابات. في الواقع، إضافةً إلى موقفه المبدئي، يُمكن عزو جزء من هذا العزوف إلى محدودية نشاط الحركة التنظيميّ فيما يتعلق بالحشد والاستقطاب، فهي لم تنجح بعد في كسب شرائح واسعة من الجماهير الفلسطينيّة، حتّى مع الفراغ في الساحة السياسيّة والاجتماعيّة الذي أحدثته وقائع ما بعد 2007. ومع ذلك، فإنّ الحركة ليست خارج اللعبة السياسيّة الفلسطينيّة بشكلٍ كلّي، إذ تُشارك في اجتماعات الفصائل الفلسطينيّة وتسعى للدخول في منظمة التحرير عبر المجلس الوطني مع سعي “حماس” لذلك، إلا أنّها تتعامل مع المُنظمة بوصفها إطاراً جامعاً للفعل النضالي وليست سلطة حكم ذاتي.4

أمّا الموقف من الخلاف الفلسطيني الذي يروّج على أنّه خلافٌ حول السلطة، فيضعه النخّالة في نصابه الصحيح حين يُشير إلى أنّه انقسام جوهريّ بين طرفين يقعان على النقيض من بعضهما البعض. يقول النخّالة: “اصطلاح المصالحة جاء كتسمية لما حدث وكأنه خلاف بين قبيلتين، لكن الصحيح هو أنَّ الخلاف في الساحة الفلسطينية هو خلاف على البرامج والرؤى السياسية”. وهذا الفهم يقوّض فهماً آخر آخذاً بالانتشار بين أوساط الناس والنخب الثقافيّة والسياسيّة، بأنّ الصراع بين “حماس” و”فتح” هو صراعٌ على الكرسيّ، فيما هو حقيقة على البرامج السياسيّة وتعريف العدو. وقد أدخلت السلطة “حماس” في لقاءاتٍ لا مُتناهية تحت عنوان “المُصالحة” والسعي نحوها، وهي في حقيقة الأمر “ثرثرة سياسيّة”، كما يُعبّر عنها النخّالة، لتمرير شعارات وهميّة حول “الوحدة الوطنية” و”البيت الفلسطيني” و”الإجماع الوطني”. 

تأويل فلسطين عسكريّاً
“ولك أن تتخيل أن القرآن الكريم كان قد نزل للتو على النبي -عليه السلام- والله يقول له: “يا أيها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال”، وحينها كان المسلمون مجموعات صغيرة في أوضاع صعبة ولا يجدون حتى ما يأكلونه. نحن كحركات مقاومة علينا تحريض الناس على قتال الاحتلال، وهذه مهمتنا، وليس مطلوباً منّا النظر إلى النتائج”.5

تحاول الحركة في أدبيّاتها استخراج معاني الجهاد والمقاومة من القرآن، من خلال آيات مثل: “يا أيها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال…”، “والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلنا”، “إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القومُ قرحٌ مثله وتلك الأيّام نداولها بين الناس…”، “إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون”. تنسجم هذه الإحالات إلى آيات الجهاد في القرآن الكريم مع أفكار الجهاد الإسلامي التي ترى أنّ الكفاح المُسّلح هو أولى أوليّاتها في النضال ضد العدوّ، كما تؤدّي وظيفة تعبويّة وتثويريّة للجماهير. هم يؤولون مثلاً، معنى “والذين جاهدوا فينا…”، أنّ المُمارسة العسكريّة ذاتها هي من تصقل الفرد وتبنيه، وهي مُمارسة سابقة على التثقيف الحزبي.

حماية فكرة مُجابهة العدوّ، عبر ممارسة المقاومة أو التركيز في الخطاب عليها وبثّها للجمهور، يجعل الجهاد أقرب إلى الحزب الطليعي بمفهومه اللينيني، الذي يُعطي لنخبة ثورية مَهمّة حراسة الأيديولوجيا وقيادة البقية من خلال المبادرة في الفعل الثوري. ورؤيتها الإسلاميّة الوطنيّة، وكونها جزء من المشروع المقاوم في غزّة، يجعلها أقرب إلى “حماس”. إلا أنّ انخفاض شروط الانضمام للتنظيم إذا ما توافرت النيّة للجهاد أو تقديم الخدمات العسكريّة، يجعل الجهاد أقرب إلى “فتح” من غيرها. وفي الواقع هناك تداخل – في بعض الأحيان – بين عناصر “فتح” الذين لا يجدون في حركتهم ما يُعبّر عن تطلّعاتهم للفعل المقاوم وعناصر الجهاد، وهذا يتيح لحركة الجهاد القدرة السريعة على تجنيد العناصر للعمل المقاوم دون المرور بفترة فحص تنظيميّ قد تطول، ولكنّه أيضاً قد يفتح المجال للارتجالات والتباينات في بعض الأحيان. وقد يُرجع البعض هذا التخفّف في الشروط إلى ضرورة الحركة -وهي صغيرة الحجم نسبيّاً- إلى عدم الانغلاق على نفسها.

تركت هذه الرؤية المركزيّة في إعطاء الأولويّة للعمل العسكري أثرها على مُجمل دور الحركة حتّى يومنا، وجعلها تتقدّم عن غيرها في هذا الدور. بيد أنّها أيضاً قد جعلت الجهاد ينأى بنفسه عن إنشاء الجمعيّات والمؤسسات والاستثمار في المُجتمع الأهلي (بشكل موسع)، فيما عدم اتكاء العمل العسكري والسياسي على أرضيّة اجتماعيّة قد يُسّهل على المحتل ضربه.

مُحاربة الوهم
في خطاب له في ذكرى الإسراء والمعراج مطلع العام الحالي، جاء النخّالة على ذكر القدس ومكانتها كما جرت العادة في مثل هذه المناسبة. غير أنّه وقف على شعارٍ اعتدناه من كثرة ترداده على ألسنة السياسيين، فقال: “اسمحوا لي أن أُصحّح هذه المقولة التي نرددها كلّ يوم، فالقدس يا سادة تحت السيطرة المباشرة للعدوّ الصهيونيّ منذ خمسين عاماً، وأقدام العدوّ تدنس القدس والمسجد الأقصى يوميّاً وعلى مدار الوقت، وكلمة خطّ أحمر تطلق على شيء لم يحدث ويتمّ التحذير من حدوثه، وليس على شيء قد حدث منذ زمن طويل”.

رُبّما تكون هذه المُكاشفة والصراحة الممزوجة بعدم المُبالغة، وهي سماتٌ نفتقدها في كثير من السياسيين، من الأمور المُلفتة في الرجل. في السياق ذاته، يصف النخّالة مثلاً معركة “سيف القدس” بالمُنجز السياسيّ المُهم، وليس بالانتصار كما فعل البعض بشيءٍ من الحماس. هو منجزٌ لأنّه بات من المُمكن تخيّل “إسرائيل” مهزومة، وهو ليس انتصاراً لأنّ المقاومة لا تزال تراوح بنفس المكان والجغرافيا. والأهم بالنسبة إليه هو المُحافظة على المُنجز وعدم خسارته، فـ “إسرائيل” تحاول أن تُفقد المعركة مُنجزها بتثبيت أنّ لا شيء قد تغيّر.

إنّ الوضوح الذي نراه في خطاب النخّالة، والذي يعكس رؤية الجهاد، مهمّ وصحّي. والتركيز على المقاومة، وعدم التشتت بمسارات السلطة، من الضروري استعادته في الحالة الفلسطينيّة ككلّ. ولا يزال التحدّي لدى الجهاد أن يُعبّر واقعه الميدانيّ عن حجم خطابه، فأحياناً يسبق الخطاب القدرة الفعليّة على أرض الواقع. كما أنّ هناك العديد من التحدّيات المُتعلّقة بتعزيز صمود الحاضنة الاجتماعيّة وبناء مُجتمع فلسطيني قوي، وهذه مهام تقع في قلب عمل حركات التحرّر، وهي مهام لا بنبغي تأجيلها أو النظر لها كأفعال ثانويّة على هامش مُقاتلة “إسرائيل” المُباشرة.