يُقال: في وقت الحرب لا حاجة للشعراء وقصائد الرثاء، والبكائيات وخطابات التهديد، والتنديد، والحديث العاطفي المشبع بالشجون والأحزان في وصف عذابات الناس وانكسارهم وقهرهم.. ولا نحتاج إلى محللين ومنظّرين، ولا لخبراء مترفين يتحدثون بهدوء وأعصاب باردة عن الأسباب والتداعيات والظروف الموضوعية.. وسط بحر الآلام الذي يدمي القلوب ولا يبقي لها سوى الحزن والغضب ومشاعر القهر والخذلان.. ولا ضرورة ولا مكان لتحليلات سياسية وتنظيرات فكرية بينما أنهار الدم الفلسطيني تُسال في الشوارع وتملأ الحيطان، ولا متسع للكلام والشرح في زمن القتل والدمار، فكل ما يقال ويُكتب بلا أهمية في عالمٍ تخلى عن قيمه وشعاراته، ووقف متفرجاً على غزة في أكثر لحظاتها ظلاماً دون أن يوقف هذه المذبحة المفتوحة… وهذا صحيح.
ويُقال: في زمن الحرب يحتاج الناس في داخل المعركة ومن خارجها إلى من يرشدهم، ومن يبدد حيرتهم، ومن يجيب عن أسئلتهم، ومن يرفع معنوياتهم ومن يمدهم بالأمل.. نحتاج إلى من يعلّق على الخبر ويشرح أبعاده، ومن يحلل كلام المحلل، ومن يفنّد الصورة، ومن يوضح الحقيقة، ومن ينقد بأمانة وشجاعة، ومن يوثق، ويجب أن يواكب الحرب بكل ما تضمنته من كوارث وبطولات القصيدة، والأغنية، والرواية، والكتاب.. وهذا صحيح أيضاً.
إذاً، في وقت الحرب نحتاج إلى الصمت، ونحتاج إلى الكلام؛ ولكن الصمت قد يكون تخاذلاً وحيادية وسلبية، والكلام قد يكون مضللاً، وشعبوياً، وتلك معادلة معقدة، وللأسف نرى شواهد عديدة على الحالتين، الكثير من المثقفين تواروا واختفوا وصمتوا تماماً، والكثير منهم أيضاً ركبوا الموجة، وصاروا شعبويين يبيعون الهواء والأوهام.
في حرب الإبادة على غزة، الصورة بالغة التعقيد، رغم وضوحها الشديد.. فيها الكثير مما يربك العقل ويعمّق من الحيرة.. فيها صور البؤس والعذاب، والأشلاء، والضحايا، والدمار، وطوابير النازحين، وخيمهم وجوعهم وخوفهم وخيباتهم.. مقابل صور المقاومين، وتفجير الدبابات، والاستبسال الملحمي، وخسائر العدو، ونافذة سياسية تكاد تُفتح، وبصيص أمل في غدٍ أفضل.
وهذه الحرب العدوانية لم تقتصر على بعدها العسكري المتمثل في توحش آلة البطش الإسرائيلية التي ألحقت دماراً هائلاً في غزة، وأزهقت أرواحاً يصعب حصرها، ولا في بعدها الإنساني المتمثل في المأساة الفظيعة التي ألمت بالسكان المدنيين.. بموازاة هذه الحرب اندلعت حرب الخطابات والسرديات: سردية الإبادة المدعومة بعقلية صهيونية استعلائية عنصرية موغلة في التطرف، مستندة إلى خرافات توراتية، مقابل سردية مقاومة الاحتلال، والنضال من أجل التحرر والاستقلال.. وسردية البروبوغاندا الإسرائيلية وتساوق الإعلام الأميركي والأوروبي معها، ومحاولة اختزال المسألة في هجمات السابع من أكتوبر، ومحاولة شيطنة الفلسطيني، مقابل سردية النكبة المتواصلة منذ سبعة عقود، وحق الفلسطيني في الحرية والكرامة والحياة.. سردية الصمت العربي والعالمي والتآمر الغربي وازدواجية المعايير والإرهاب الإمبريالي، مقابل سردية حقوق الإنسان، والشرعية الدولية، والقانون الدولي والإنساني وحق الشعوب في تقرير مصيرها.. وهذه الحرب؛ حرب الرواية والسرديات لا تقل خطورة وأهمية عما يجري على الأرض من عدوان وقتل وتهجير وتجويع.
وحتى في الجانب الفلسطيني ثمة حرب سرديات من نوع آخر؛ سردية المقاومة المسلحة والمغامرات العسكرية والتضحية والشهادة وتقبل الخسائر البشرية والمادية وتبريرها مهما بلغت، مقابل سردية تنويع أساليب المقاومة وترشيدها واحتكامها للعقل والحكمة والحسابات السياسية وتجنب الخسائر كلما أمكن ذلك.. وسردية نزال العدو بالقتال وحده، وبمعادلة صفرية لا تقبل المساومات، مقابل سردية الاشتباك السياسي والقانوني والإعلامي، وبكل ما تتطلبه من مساومات. وسردية النضال ضمن حسابات الفصيل والحزب وأولوياته ومرجعياته وتحالفاته وأجنداته؛ مقابل سردية التحرر الوطني والتوحد والمشاركة وحسابات المستقبل والمصالح العليا للشعب.. وسردية «الجهاد» والإسلام السياسي ومفاهيمه وأيديولوجيته، مقابل سردية الشعب والوطن والاستقلال والتحرر الوطني.
والنقاش حول طوفان الأقصى وحرب الإبادة ليس مثل أي نقاش، وقد انخرط المثقفون فيه وظهرت بينهم خلافات حادة وعميقة في وجهات النظر، ومن الصعب حسم أي منها، ولا ينبغي ذلك، فلكل طرف جانب من الصواب، وجانب من العاطفة، والكثير من العواطف والتمني والأحكام المسبقة والقراءات الأيديولوجية.. وللحقيقة دوماً أوجه مختلفة.
لكنها ليست محاججة منطقية ولا فذلكات إعلامية، ولا هي مناظرة كلامية، فقد كان لسحر البيان والتلاعب بالكلمات، وزج المصطلحات الكبيرة والجمل الثورية والشعارات البراقة والخطابات الرنانة أثر مدمر على الحقيقة أولاً، وعلى أهل غزة ثانياً، وبالتالي على القضية الفلسطينية.
إنها مسؤولية تاريخية ووطنية وأخلاقية تجاه عملية واقعية تجري على الأرض، حساباتها من دم ودمار وأهوال وأشلاء وخوف ومعاناة وتشريد ونزوح، وحقائق فُرضت بالقوة، وتحولات جديدة أكثرها ليست في صالحنا.
الموضوع ليس حماسة متدفقة، ولا هو نقاش العقل والمنطق والمحاكمات الحقوقية والكلمات المنمقة، ولو كان الأمر كذلك لما صار أي خلاف، لكنها حسابات السياسة ومعادلاتها، وقوانين الحرب القاسية، وموازين القوى المختلة، والظروف الإقليمية والدولية المتشابكة والمعقدة. ومن المرجح أنها لن تعجبنا، وسنراها ظالمة، لكنها الحقيقة المرة.
أو بقول آخر، هي حسابات العقل لما هو ممكن ومتاح وما هو مجدٍ ومحتمل، وما هو مهم وما هو أهم.. مقابل ما هو غير معقول، أو متعذّر آنياً ضمن المعطيات المتاحة، وما هو مغامر حد التهلكة والانتحار، وجلب الدمار.
فهناك حسابات أتت من صلب وعي ناضج وثقافة إنسانية وخبرات عميقة لحركات التحرر والكفاح الوطني في سياق تجاربها الخاصة والحية على الأرض، مقابل حسابات ومعادلات فاقدة الصلة تماماً ومنفصلة عن الواقع، نابعة من التفكير الرغائبي، أو للتضليل الإعلامي الممنهج، أو في إطار بروبوغاندا حزبية.
هناك حسابات وطنية أولوياتها ومعاييرها وطنية.. مقابل حسابات تتبع أجندات ومصالح أطراف خارجية وأحلاف ومحاور..
وهناك حسابات أخلاقية تضع الإنسان في المقام الأول، كغاية وهدف ومرتكز.. مقابل حسابات أيديولوجية الإنسان فيها مجرد وسيلة وأضحية ووقود للحروب.
لذا، سيظل الجدال محتدماً، وسيكون للتاريخ كلمته.