تتواصل العملية العسكرية الإسرائيلية البرية في محافظة شمال قطاع غزة، مخلفة مئات الشهداء والمصابين، فضلاً عن تدمير عشرات المنازل، وإجبار الآلاف على النزوح واعتقال آخرين.
عندما ضربت الطائرات الحربية الإسرائيلية، فجر الأحد الماضي، مربعاً سكنياً في بلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، لم تجد عائلة أبو شدق من ينقذها أو ينتشل الشهداء والجرحى من تحت أنقاض المنزل الذي تم تدميره مع عدد من المنازل المجاورة بالصواريخ، إذ توقفت طواقم الدفاع المدني والإنقاذ وجهاز الإسعاف عن العمل كلياً في المنطقة الشمالية من القطاع.
ولا تضم محافظة شمال غزة أي مستشفيات عاملة، في ظل التهديدات الإسرائيلية المتكررة للطواقم الطبية، واقتحام مستشفى كمال عدوان وتدمير أجزاء منه، والاستهداف المتكرر للمستشفى الإندونيسي والسيطرة عليه من قبل قوات الاحتلال، بالتزامن مع استهداف طواقم الدفاع المدني بشكل متكرر خلال الأسابيع الأربعة الماضية، على الرغم من وجود مئات المنازل المكتظة بالأهالي الذين يكررون النزوح من منزل إلى آخر بحثاً عن الأمان.
لا يجد الأهالي حالياً من يقدّم لهم الخدمات الطبية أو يعمل على انتشالهم حال طاولهم القصف الإسرائيلي، سواء القصف المدفعي أو بالطائرات الحربية والمسيّرات، ما يضطرهم إلى مساعدة بعضهم بعضا في جهود الإنقاذ بأدوات بسيطة لانتشال بعض الشهداء والناجين، فيما يبقى الكثيرون تحت الأنقاض، وفي إسعاف الجرحى باستخدام العربات التي تجرها الحيوانات. لكن الكثير من المصابين الذين يمكن إنقاذهم طبياً يتعرضون للاستشهاد، نتيجة تركهم ساعات من دون تمكّن أي من الطواقم الطبية أو الدفاع المدني أو المواطنين من الوصول إليهم، ما تسبب في استشهاد العشرات خلال الفترة الماضية في منطقة شمالي القطاع.
خرجت المنظومة الصحية عن العمل كلياً بفعل الإبادة الإسرائيلية
بالتوازي مع ندرة الطواقم الطبية وخروج المنظومة الصحية عن العمل بفعل الإبادة الإسرائيلية، يعيش أهالي الشمال واقعاً مأساوياً، في ظل استمرار عمليات الجيش الإسرائيلي التي تشمل اعتقالات متكررة، وإجبار السكان على النزوح نحو المناطق الغربية من مدينة غزة.
وخلال الأيام الماضية، ارتكب الاحتلال الإسرائيلي عدة مجازر استهدفت عائلات أبو شدق والمصري والكحلوت وغباين وغيرها. وفي تلك المجازر تقصف طائرات الاحتلال المربعات السكنية، وتوقِع عشرات الشهداء، وتبقى الجثامين تحت الأنقاض من دون انتشال، ويقترب إجمالي عدد الشهداء في محافظة الشمال من الألف خلال أقل من شهر واحد.
بدأت عملية الاحتلال الإسرائيلي البرية في مخيم جباليا للاجئين، ثم توسعت لتشمل مشروع بيت لاهيا وبيت حانون والمناطق الغربية. ويعمل جيش الاحتلال على محاصرة مراكز الإيواء بعد قصف المناطق المحيطة بها، ثم يقوم بتجميع النساء والأطفال بعيداً عن الرجال، ويقوم بتوجيههم للنزوح إلى خارج المنطقة قسراً، فيما ينقل المعتقلين من الشباب والرجال إلى مراكز التحقيق.
واقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان، واعتقلت غالبية الطواقم الصحية، بما في ذلك مدير المستشفى الطبيب حسام أبوصفية، والذي أطلق سراحه لاحقاً، فيما قتل جنود الاحتلال نجله خلال وجوده في محيط المستشفى، كما تعرّض المستشفى لأضرار بليغة، من جراء عمليات القصف والحرق التي طاولت المنطقة المجاورة.
سبق أن أكد جيش الاحتلال أن عمليته البرية تستهدف “بنية تحتية عسكرية” لحركة حماس في مناطق شمالي القطاع، وأنه لا ينفذ “خطة الجنرالات” التي تم التسويق لها إعلامياً على مدار شهور. غير أن الفلسطينيين يؤكدون أن جيش الاحتلال يقوم بتنفيذ تلك الخطة بشكل فعلي، من خلال عمليات التطهير العرقي التي يقوم بها في المنطقة، علاوة على عمليات التجويع ومنع إدخال المساعدات إلى مناطق الشمال، وتدمير المنظومة الصحية وإخراجها عن الخدمة.
وحسب تقديرات محلية، فإن مناطق محافظة الشمال ومدينة غزة كان فيها نحو 400 ألف فلسطيني، غير أن العملية العسكرية الإسرائيلية تسببت في نزوح عشرات الآلاف منهم نحو المناطق الغربية لمدينة غزة، بفعل القصف وعمليات الاعتقال والمداهمة التي طاولت مراكز النزوح في جباليا ومخيمها والمناطق المحيطة بهما. وآخرون أجبرتهم القوات الإسرائيلية على المغادرة باتجاه مناطق جنوب القطاع.
تعرضت عائلة أبوشدق لمجزرة مروعة فجر الأحد الماضي. يقول رامي أبوشدق إن منزل أحد أقاربه في منطقة الدوار الغربي ببلدة بيت لاهيا تعرّض للقصف مع 5 منازل أخرى مجاورة من قبل الطائرات الإسرائيلية. ويضيف: “كانت تلك المنازل مكتظة بالسكان، ما تسبب في استشهاد نحو 30 فلسطينيا، وتدمير المنطقة بالكامل، عدا عن وجود عدد كبير من الإصابات التي لم يُعرف مصيرها إلا بعد حلول النهار، وقد استشهد بعضهم نتيجة عدم إسعافه سريعا”.
يتابع أبوشدق، الذي عمم على الصحافيين شهادة مسجلة: “طواقم الدفاع المدني وسيارات الإسعاف لم تتمكن من الوصول إلى المنطقة نتيجة القصف الإسرائيلي، فيما بقي العشرات تحت الأنقاض قبل أن يتم انتشالهم من قبل المواطنين عبر عربات تجرها الحيوانات في محاولات مستميتة لإنقاذ بعض المصابين، فيما نقلت جثامين الشهداء لدفنها بعد انتشالها من تحت الأنقاض”.
ويشير إلى أن “المجزرة وقعت في وقت مبكر من فجر الأحد، في مكان نزحت إليه عشرات العائلات من مناطق أخرى في الشمال، ولم تتمكن أي من الطواقم الطبية أو طواقم الدفاع المدني من الوصول إلى المنطقة، بسبب الوضع الأمني في شمالي القطاع”.
ووقعت مجزرة ثانية في منطقة شارع الهوجا بوسط مخيم جباليا، حين قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي مربعا سكنيا، ما تسبب في استشهاد وإصابة نحو 150 فلسطينيا، فيما تمكنت طواقم الإنقاذ من انتشال عدد من الأهالي، وبقي العشرات تحت الأنقاض حتى اللحظة.
يقول المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة، محمود بصل، إن منظومة الدفاع المدني خرجت عن الخدمة بشكل تام في شمالي القطاع نتيجة للاستهداف الإسرائيلي المتكرر، والتهديدات التي وجهت للطواقم، واستهداف ما تبقى من مقدرات المنظومة التي كانت تعمل بشكل جزئي.
يوضح بصل لـ”العربي الجديد”، أن “ما حدث في منطقة غرب بيت لاهيا تكرر في أكثر من 13 منزلا خلال الأسبوع الأخير، إذ يقوم جيش الاحتلال بقصف المربعات السكنية والمنازل، ويمنع الطواقم من الوصول إليها لانتشال الشهداء والجرحى، ما يتسبب في ارتفاع أعداد الشهداء. تلقّى الدفاع المدني عشرات المناشدات التي لم يتمكن من التعامل معها، فيما يقوم المواطنون بجهودهم وأدواتهم البسيطة، بانتشال ما يمكن انتشاله من الضحايا، ونقلهم إلى بعض النقاط أو المراكز الصحية القريبة”.
يتابع: “لا تتمكن طواقم الدفاع المدني من العمل بسبب عدم وجود أي كوادر في الشمال في الوقت الحالي، في حين لا تتدخل أي منظمة أو مؤسسة أممية أو دولية للضغط على الاحتلال. الواقع الإنساني في مناطق الشمال كارثي في الفترة الحالية، مع غياب المنظومة الصحية ومنظومة الدفاع المدني، في ظل استمرار عمليات القصف الإسرائيلي على المربعات السكنية والمنازل في مناطق جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون وغيرها”.
ويلفت بصل إلى أن “الاحتلال يروّج لكذبة المناطق الإنسانية، في الوقت الذي تتعرض فيه تلك المناطق لعمليات قصف، كما يجري في مناطق وسط القطاع وجنوبه، علاوة على عمليات القصف المتواصلة على مدينة غزة التي نزح إليها الأهالي من مناطق الشمال، ما يجعل جميع مناطق القطاع غير آمنة”.
يتعمّد الاحتلال الإسرائيلي، منذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، جعل مناطق شمالي قطاع غزة غير قابلة للعيش، عبر قصف البيوت وتدميرها ونسف المناطق السكنية، إضافة إلى إحراق كل متعلّقات المهجرين والنازحين في مراكز الإيواء، سعياً إلى إجبار الفلسطينيين على النزوح جنوباً، أو مغادرة القطاع ض