كانت سيدة غزية وولد يسيران في الشارع يرفعان راية بيضاء، وفجأة هوت أرضًا بعد استهدافها برصاصة؛ فهرب الولد. ولد آخر (13 عاماً) أصيب بالرصاص، فهبّ غزيون لنجدته؛ فأطلق جنود إسرائيليون صاروخًا نحوهم. وفي حادثة أخرى، عُثر على رجل في الـ 62 من عمره مقتولًا دهسًا، وهو مكبَّل اليدين. وهكذا طفلة في الـ 13 وُجِدت مقتولة دهسًا.
هذا بعض ما جاء في شهادات جمعها مؤرخ إسرائيلي من الجامعة العبرية في القدس المحتلة عن جرائم حرب الاحتلال داخل قطاع غزة، وتنشر قسمًا منها صحيفة “هآرتس” في ملحقها الأسبوعي، اليوم، الجمعة، ضمن تحقيق بعنوان “الحقيقة التي توقف نبض القلب، وتجمّد الدم في العروق”.
وطبقًا لتقرير موسّع ينشره ملحق “هآرتس”، جَمَعَ المؤرّخُ اليهودي الدكتور ليه مردخاي هذا المخزن المعلوماتي عن جرائم إسرائيلية داخل القطاع خلال الحرب المتوحشة غير المتوقّفة على غزة. ويحتوي هذا المخزن على فيديوهات لطوابير غزيين ينقضون على مخبز طمعًا برغيف يسدّون به جوعهم، فيما يُظهِر فيديو آخر قوات الاحتلال وهي تمنع دخول المواد الإنسانية، وفيه أيضًا غزيون جائعون يتناولون العشب، ويشربون ماء البحر لإطفاء الظمأ والجوع.
ضمن المستندات الموثقة للجرائم البربرية، يظهر جندي إسرائيلي في فيديو وهو يغني قبالة جثة فلسطيني، فيما يقوم كلب بنهشها.
ويفضح فيديو آخر الجيش وهو يأمر ممرضًا فلسطينيًا بمغادرة المستشفى، تاركًا وراءه خمسة أطفال خدّج؛ ليضطر إلى اصطحاب الرضيع الأقوى صاحب الإمكانية الأكبر للبقاء. وبعد أسبوعين، يكتشفون جثث الأطفال الخدّج الأربعة داخل الأسرّة الحاضنة الخاصة بكل منهم.
وفق سجلات المؤرخ الإسرائيلي مردخاي، فقد تمّ قتل 710 أطفال رضع، أعمارهم دون العام الواحد.
ويفضح المؤرخ قتل قوات الاحتلال نحو 500 من الطواقم الطبية، علاوة على قتل 20535 من النساء والأطفال.
كما يكشف، في سجلاته التوثيقية، عن قتل 48 أسيرًا ومعتقلًا فلسطينيًا في سجون إسرائيلية، مشيرًا إلى أن تسعة أسرى فقط ماتوا خلال اعتقالهم في سجن غوانتنامو الأمريكي في غضون عشرين سنة.
وبعد اطلاعها على محتويات “البنك المعلوماتي” عن المقتلة، تؤكد صحيفة “هآرتس” أن الحديث يدور عن التوثيق المنهجي الأكبر والأكثر تفصيلًا لجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل داخل قطاع غزة، والمستند إلى آلاف الفيديوهات، الصور، الشهادات، التقارير والتحقيقات.
ويقول الصحفي الإسرائيلي المعد لهذا التحقيق إن الغوص في بحر هذه البراهين والأدلة عن جرائم الحرب في غزة ينطوي على تجربة مرعبة.
“هآرتس” تخصّص كل الصفحة الأولى للملحق الأسبوعي الهام لعنوان هذا التحقيق الذي تنشر معه صورة سيدة فلسطينية تغرق في دموعها وهي تحتضن جثة طفلها الرضيع. “
“كلب ينهش جثة شهيد”
ويستدل من تحقيق “هآرتس” أن الدكتور ليه مردخاي أعدّ سجلاً مفصلاً، مرتباً وفق التواريخ والأسماء والأماكن الدقيقة لكل انتهاك وجريمة.
وفي الجريمة رقم 379، يُظهِر فيديو جندياً إسرائيلياً يصور كلباً تحت شجرة في غزة ينهش جثمان شهيد، وهو يقول “واي واي… الكلب أكل المخرّب، راح المخرّب”.. وبعد ثوانٍ يرفع كاميرا هاتفه المحمول ليصور المشهد الطبيعي لشمس غزة قبل غروبها وهو يقول “ما أجمل الغروب…”
وتوضح الصحيفة العبرية أن مخزن الوثائق الذي يفضح جرائم حرب إسرائيل في غزة كُتب باللغة العبرية والإنكليزية، وهو عبارة عن لائحة اتهام خطيرة جداً ضد إسرائيل وجيشها ومجتمعها، يشمل آلاف البنود.
تشمل لائحة الاتهام هذه 1300 ملاحظة هوامش تقود لمصادر المعلومات، من فيديوهات وصور وتحقيقات، وتمتد على 100 صفحة.
وتؤكد الصحيفة أن هذا السجل التوثيقي الأسود يشمل توثيقاً لجنود يقتلون مدنيين غزيين يرفعون الراية البيضاء، وتنكيلاً وتعذيباً بالأسرى وبالجثث، ومظاهر فرح وشماتة خلال هدم منازل ومؤسسات وأبراج سكنية ومساجد وكنائس دون سبب، علاوة على عمليات سلب ونهب ممتلكات خاصة وإطلاق رصاص عشوائي، واستهداف حتى الكلاب والقطط، وإحراق كتب ومكتبات، وتدمير رموز فلسطينية، بما في ذلك إشعال النار بالمصاحف وتحويل مساجد لمنشآت عسكرية مخصصة للطعام.
ويكشف المؤرخ الإسرائيلي عن مستند يثبت أن الاحتلال احتجز 240 من الطواقم الطبية والمرضى داخل مستشفى “الشفاء” في اجتياحه الثاني، وهم معتقلون داخل مبنى لمدة أسبوع دون غذاء، ما أدى لموت 22 منهم، فيما يؤكد أطباء في شهادات خاصة عمليات إعدام قام بها جنود إسرائيليون.
تتابع “هآرتس” أن المؤرخ الإسرائيلي ليه مردخاي أكد، في شهادات أطباء خاصة، على عمليات إعدام قام بها جنود إسرائيليون. كما تشير الصحيفة إلى أن مردخاي وثّق أشرطة فيديو تظهر التمثيل بجثث الشهداء الفلسطينيين.
“بهيمية المجتمع الإسرائيلي”
تحت عنوان “نزع إنسانية الفلسطينيين”، تقول “هآرتس” إن سجلات مردخاي تضم مئات الأمثلة على “بهيمية المجتمع الإسرائيلي ومؤسسات الدولة حيال عذابات الغزيين”، بدءًا من تصريحات رئيس الوزراء نتنياهو التي تبيح قتل الفلسطينيين، إضافة إلى 18 ألف دعوة إسرائيلية على الإنترنت لتسوية غزة بالأرض. وتشمل هذه الأمثلة أطباء إسرائيليين يؤيدون قصف مستشفيات القطاع، وفنانًا ساخرًا يسخر من موت الفلسطينيين.
كما تشير “هآرتس” إلى أن سجلات مردخاي تضم أدلة موثقة كثيرة على “تراجيديا أهالي غزة”، بما في ذلك فيديو لطبيب مضطر لبتر قدم ابنة شقيقته دون مادة مخدرة على طاولة طعام، وبسكين مطبخ، وسيدة تلد داخل غرفة مليئة بالنازحين في مركز إيواء، وأطباء اضطروا إلى ترك الجرحى يموتون لعدم توفر أدوية وأجهزة لإنقاذهم.
وتضيف “هآرتس” أنه، في يناير الماضي، نشرت وسائل إعلام أن هناك مرحاضاً واحداً لكل 220 شخصاً داخل مخيمات النزوح، وحماماً لكل 4500 شخص، فيما كانت منظمات طبية قد نشرت تقارير عن انتشار أمراض معدية خاصة جلدية لدى معظم الغزيين.
بحسب تقرير “هآرتس”، فقد أثّر على المؤرخ الإسرائيلي ليه مردخاي بشكل عميق مشاهدة فيديو لكلب ينهش جثمان الشهيد جمال عاشور (62 عامًا). وقيل لاحقًا إن دبابة داسته، وكانت السلاسل الحديدية ما زالت بيديه. ونُشر هذا الفيديو في قناة “تيليغرام” الإسرائيلية تحت عنوان يخاطب الإسرائيليين: “ستفرحون بمشاهدة هذا الشريط”.
وتقول “هآرتس” إنها تورد في ملحقها أضعاف هذه العينات استنادًا إلى “مخزن المعلومات” الذي جمعه المؤرخ ليه مردخاي.
وكانت صحيفة “واشنطن بوست” قد نشرت، قبل ذلك، تحقيقًا عن جرائم حرب أخرى ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي داخل قطاع غزة، تزامنًا مع تأكيدات متكررة من وزير الأمن السابق ورئيس الأركان موشيه يعلون على ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب خلال الحرب على غزة، مشدّدًا على أن الجيش لم يعد أخلاقيًا. وهذا ما تؤكده “هآرتس” بالاستناد إلى قرائن كثيرة في مقابلة أجرتها معه، اليوم.