هآرتس – بقلم: تسفي برئيل “في الأسبوع الذي سيطرت فيه طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، امتدت قافلة طويلة خلف سيارة السفير القطري في أفغانستان، سعيد بن مبارك، في طريقها إلى مطار كابول. جلس في هذه السيارات حوالي 250 طالبة ورجال طاقم تم تخليصهم من مدرسة داخلية للبنات، استقلوا الطائرات القطرية وهبطوا في مطار الدوحة بسلام. خلال ذاك الأسبوع، نقلت قطر إلى أراضيها عشرات آلاف طالبي اللجوء الأفغان عبر الحواجز التي وضعتها طالبان، حيث كانت طواقم السفارة، وحتى السفير نفسه، يرافقون شخصياً القوافل إلى المطار. بعد ذلك تم إسكانهم في سكن مؤقت في معسكرات للجيش القطري والجيش الأمريكي في قطر. وهناك حصلوا على وجبات الغذاء والشراب. وحتى 31 آب، هبط في قطر حوالي 55 ألف أفغاني، ينتظرون الآن مصادقة على انتقالهم إلى دول أخرى في العالم.
العلاقات الوثيقة التي استمرت لعشرات السنين بين قطر وطالبان، منحت قطر مكانة خاصة وحيوية ساعدت على انسحاب سريع وهادئ نسبياً للقوات الأمريكية، وإنقاذ آلاف المدنيين الأمريكيين، موظفي الإغاثة والمتعاونين مع الإدارة الأمريكية. أما عشرات الآلاف الذين بقوا في أفغانستان خائفين من ملاحقة طالبان، فتشكل قطر عمود دخان قد يضمن سلامتهم، ولولا الوساطة والتدخل القطري لكان الانسحاب الأمريكي أكثر عنفاً ودموية.
“اختيرت” قطر من قبل طالبان لتكون دولة الاتصال بينها وبين أمريكا حتى قبل سنوات. أما محاولة السعودية والإمارات لإقناع طالبان بقيام ممثليات على أراضيها فقد فشلت. تعتبر الدولتان مقربتين من الولايات المتحدة، وتديران صراعاً ضد حركات إسلامية متطرفة، منها حركة الإخوان المسلمين، في حين تعتبر قطر دولة “محايدة” لم تضع أي شروط مقيدة على إقامة ممثلية لطالبان في الدوحة. هكذا كانت قطر أيضاً المستضيفة والعرابة للاتفاق الذي تم التوقيع عليه في السنة الماضية بين أمريكا وطالبان، والذي كان يمكنه أن يرتب انسحاب القوات الأمريكية ويضمن عدم مهاجمة قوات طالبان أهدافاً أمريكية، وبالتالي انسحاب هادئ، ثم إدارة مفاوضات مع حكومة أفغانستان.
دولة أساسية
تحولت قطر إلى دولة أساسية في العلاقات بين الولايات المتحدة وطالبان، وهي التي رتبت في الشهر الماضي لقاء بين رئيس الـ “سي.آي.ايه”، وليام بيرنز، وقيادة طالبان. والآن تدير مفاوضات مع طالبان على إدارة وتأمين المطار في كابول، وهو المطار الرئيسي الذي سيمكن طالبان من إقامة علاقات مع العالم والبدء في برامج إعادة إعمار الدولة وبناء علاقات دولية. ستكون السيطرة على المطار الاختبار الأول والمهم بالنسبة لطالبان.
قبل سيطرت طالبان على كابول، تم الاتفاق بين حكومة أفغانستان السابقة والإدارة الأمريكية على أن يتم تأمين المطار من قبل قوات تركية. تبنت تركيا هذا الاقتراح برضى لأنه كان يمكن أن يحسن علاقتها مع الولايات المتحدة ومع الرئيس بايدن، ويمنحها طريقاً للوصول والتأثير على طالبان وتعزيز سيطرتها في وسط آسيا. لكنه اتفاق تبخر عند سقوط الحكومة في أفغانستان وهرب قيادتها إلى الإمارات. ولكن بفضل قطر، بقيت تركيا المرشحة الوحيدة لإدارة المطار وتأمينه. الخلاف بين طالبان وتركيا يؤخر تطبيق الخطة في الوقت الحالي. وتطالب تركيا بأن يتم تأمين المطار ومحيطه من قبلها، في حين تعارض طالبان مبدئياً وجود قوات أجنبية، مهما كانت، على أراضي الدولة.
ثمة تقدير بنجاح قطر في إقناع طالبان بالتنازل عن مطالبها إذا أرادت الحصول على الشرعية الدولية، وخصوصاً إذا نوت تجنيد مستثمرين أجانب لإعمار الدولة. وموافقة طالبان على التحادث مع تركيا حول إدارة المطار غير مقطوعة عن تأثير قطر؛ فبين قطر وتركيا تحالف أيديولوجي، وعسكري، واقتصادي، وسياسي، آخذ في التطور منذ أقامت الدولتان علاقات دبلوماسية بينهما في العام 1972. وقد وصل هذا التحالف إلى الذروة في العام 2017 عندما فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطر حصاراً اقتصادياً ومقاطعة سياسية. حينذاك، أقامت تركيا قطاراً جوياً مع قطر ودعمتها في الساحة الدولية، وأقامت فيها قاعدة عسكرية تضم نحو 3 آلاف جندي.
لقد تعاونت تركيا وقطر أيضاً في الساحة السورية. وهما تدعمان حركة الإخوان المسلمين وحماس، وتعملان بشكل مشترك في ليبيا، وتؤيدان الحكومة المعترف بها هناك، مقابل دعم كل من السعودية ومصر والإمارات وروسيا للجنرال الانفصالي، خليفة حفتر. وهما غير شريكتين في التحالف العربي الذي أقامته السعودية في صراعها ضد نفوذ إيران. ويمكنهما الآن جني ثمار التحالف بينهما في الساحة الأفغانية.
إذا كان لتركيا أساس صلب للخوف من سياسة بايدن نحوها، أو أن تتعرض لرزمة عقوبات أخرى بسبب شراء صواريخ روسية مضادة للطائرات وانتهاك حقوق الإنسان، فقد أصبحت الآن حليفة مرغوباً فيها. فالإدارة الأمريكية، التي لا تستبعد إقامة علاقات مع طالبان، تفتقد الآن قناة اتصال رسمية جيدة مع طالبان، وهي بحاجة إلى أي وساطة، حتى لو كانت الوساطة تركية. وبالأحرى شريكتها قطر.
قصة غرام سرية
الانسحاب من أفغانستان أنتج حلفاً جديداً آخر، مفاجئاً ومهماً. فالإمارات تدير منذ أشهر علاقة سرية مع تركيا بهدف استئناف العلاقات وتبني شراكة اقتصادية واستراتيجية. انطلقت هذه الاتصالات في سماء الشرق الأوسط عندما جاء مستشار الأمن القومي في الإمارات، طحنون بن زايد، لزيارة في لتركيا منتصف آب لمناقشة “التعاون الاقتصادي واستثمارات كبيرة في تركيا”، كما وصف ذلك الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان. وبعد مرور أسبوعين على الزيارة التي أثارت موجة تخمينات، اتصل ولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد، مع اردوغان وأجريا محادثة “ودية ومثمرة” حول طرق الدفع قدماً وتطوير العلاقات.
كانت أبو ظبي وصفت تركيا بـ “العامل الأكثر خطورة في الشرق الأوسط من إيران”، كما قال سفير الإمارات في واشنطن. وقد تعرضت لوابل من الإدانات التركية، وحتى للتهديد بقطع العلاقات بسبب التوقيع على الاتفاق مع إسرائيل، وقيامها بصورة مفاجئة بانعطافة 180 درجة، وهي تسعى الآن لبناء حلف مع أردوغان. لم يقدم بن زايد أي تفسير علني لتلك الانعطافة، لكن التقدير أنه بعد أن وقع ترامب على اتفاق الانسحاب مع طالبان، تعهد بايدن بتنفيذه. وعقب جهود إحياء الاتفاق النووي مع إيران، بدأت الإمارات بإعادة فحص شبكة علاقاتها في المنطقة، والبحث لنفسها عن حزام أمان استراتيجي غير مرتبط بالولايات المتحدة.
تركيا من الدول القوية في المنطقة. وهي عضو في حلف الناتو، ورغم الشرخ فيما بينهم، إلا أنها بقيت شريكة تجارية مهمة. حجم التجارة بينهما 8 مليارات دولار في 2020. ويمكنها استيفاء “المواصفات العسكرية والسياسية” التي يعرضها بن زايد. النتيجة هي أن الحبيبة العربية لإسرائيل ستكون أيضاً حليفة لتركيا، التي تستطيع أن تشتري منها السلاح والطائرات المسيرة ووسائل قتالية أخرى إذا فرضت إسرائيل أو الولايات المتحدة القيود عليها. بالنسبة لتركيا، التي كانت طوال سنوات تطمح إلى موطئ قدم في دول الخليج وتم رفضها بشكل فظ، فإن هذا يشكل إنجازاً مهماً، ولا يتعلق الأمر بالجانب الاقتصادي فحسب؛ فعندما لا يكون للإمارات سفير في تركيا منذ العام 2018، وتنمي علاقاتها مع تركيا من جديد، فإن لهذا تأثيراً على استعداد مصر لإقامة علاقات سليمة مع من اعتبرت “دولة معادية”.
في الأسبوع المقبل، قد يصل إلى تركيا وفد من وزارة الخارجية المصرية برئاسة نائب وزير الخارجية، حمدي لوزة، للبدء في جولة محادثات أخرى حول استئناف العلاقات بين الدولتين. ما زال الخلاف بينهما عميقاً. فمنذ صعود السيسي للحكم في العام 2013 لم تتوقف تركيا عن تسميته بـ “الديكتاتور المستبد”، وتعتبر سيطرته على الحكم انقلاباً عسكريا. أعطت تركيا اللجوء السياسي لقادة حركة الإخوان المسلمين، الذين يشن ضدهم السيسي حرباً ضروساً. وهي تسمح لقنوات التلفزيون خاصتهم ببث مضامين انتقادية ضده. وقد وقعت على اتفاق لترسيم الحدود الاقتصادية بينها وبين ليبيا، بصورة قد تمس بتسويق الغاز المصري إلى أوروبا. ولكن في أعقاب ضغوط ترامب قبل خروجه من البيت الأبيض على مصر وتركيا، بدأت تحسسات أولية جعلت تركيا نشرت بيانات متفائلة بشأن وجود احتمالية جيدة لاستئناف العلاقات.
استبدال القرص
لمصر عدة شروط، مثل تسليم المطلوبين من حركة الإخوان المسلمين، وسحب رخص بث قنوات التلفزيون خاصتهم. ولكن يبدو أن مصر، مثل الإمارات، تنوي استبدال القرص. ما ظهر حتى هذه السنة كتطور غير واقعي يثبت أن السياسة الخارجية تعلمنا ألا نقول “لا”. في هذا السياق، من الجدير الانتباه لتصريحات الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، الذي أعلن أن تأسيس وتحسين العلاقات بين إيران وجيرانها هو على رأس سلم أولوياته السياسي. وكان يقصد العلاقات بين إيران والسعودية. للدولتين مصالح جديدة للتعاون فيما بينهما إزاء سيطرة طالبان على أفغانستان؛ فالسعودية تخشى من ازدياد قوة التنظيمات الإسلامية في أراضيها، وإيران تخشى من انزلاق الإرهاب السني إلى أراضيها. وقد أقامتا علاقات جيدة مع طالبان ومولتا نشاطاتها. وعليهما الآن ضمان أنه استثمار لن يذهب هباء، ولن يكون كسهم مرتد ضدهما.
التحول المتنوع في خريطة العلاقات سيلزم إسرائيل بفحص مكانها في نسيج آخذ في التبلور. فالمفهوم الذي يضم كتلة دول تؤيد أمريكا وتمنحها حزام أمان عسكرياً وسياسياً وتخلق معها ائتلافاً غير رسمي ضد إيران، مفهوم يوشك على النفاد. والجهود العربية لبناء تحالفات إقليمية جديدة لمواجهة أخطار قديمة مثل طالبان والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، تتساوق مع نية بايدن في أن يترك للدول نفسها أن تواجه التهديد دون إشراك أمريكا في الأمر. والربيع السياسي التركي الذي يشمل تحسساتها لتأسيس علاقات جديدة مع إسرائيل ومصر والإمارات والسعودية، يلزم إسرائيل بإعادة فحص الانضمام لهذه العملية كي لا تبقى خارج النادي. هذه المعضلات الجديدة جزء من الموجة الارتدادية التي أحدثتها طالبان. وتوضح أن اتفاقات السلام التي وقعتها مع الدول العربية تقتضي منها تكيفات سياسية كانت في السابق غير مطلوبة منها.