طموح الشرق الأوسط في تبني نماذج المباني الخضراء

مع تصاعد القلق الدولي بشأن ظاهرة الاحتباس الحراري، بدأت صناعة البناء في الشرق الأوسط تشهد تحولًا نحو بناء أكثر استدامة كجزء من جهود أوسع لمواجهة درجات الغازات الهيدروكربونية المرتفعة في اقتصاد المنطقة، واللافت هنا هو أن هذه الصناعة باتت تشكل ثقلًا اقتصاديًا مع نمو حجمها عامًا بعد عام لتتخطي الحاجز الملياري.

وفي منطقة الشرق الأوسط حيث تزدهر هذه الصناعة بات الجميع يعي خطورة الآثار المترتبة على الانبعاثات الكربونية المضرة بالبيئة، وتدرك دول الخليج تحديدًا أن نصيب الفرد فيها من هذه الانبعاثات يعتبر من بين الأعلى على مستوى العالم، وبالتالي فهي تؤمن بدورها الرائد في اتخاذ إجراءات فاعلة للحد من هذه الظاهرة.

لقد تعهدت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بالوصول إلى درجة الحياد الكربوني بحلول عام 2050 و2060 على التوالي، وجاء ذلك مع السعي الجاد لجعل صناعة البناء أكثر استدامة ومراعاةً للبيئة، أما بخصوص استخدامات الطاقة فإن التركيز على الطاقة المتجددة أصبح بطبيعة الحال ضرورة ولم يعد خيار إذا أردنا تحقيق الأهداف البيئية الإقليمية.

وحتى ندرك مدى تأثير صناعة البناء وإسهامها في زيادة الانبعاثات الكربونية، فيكفي أن نقول بأنها تشكل ما يقارب الـ 40% من مجموع الانبعاثات على مستوى العالم، وفي ذات الوقت فإن الإنتاج السنوي من الأسمنت وحده يصل إلى 4 مليار طن، أي ما يعادل 8% من انبعاثات الغاز، ولا يمكننا أيضًا أن نغفل نسبة استهلاك العقارات السكنية والتجارية في منطقة الشرق الأوسط للطاقة حيث أنها تفوق النسب المستهلكة في مناطق أخرى من العالم، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى طبيعة الطقس في المنطقة وشدة الحرارة التي تزيد من درجة استخدام الزجاج والاعتماد بشكل كبير على مكيفات الهواء كما أشارت دراسات المركز الفكري البيئي الإقليمي EcoMENA.

في سياق العمل على معالجة آثار البصمة الكربونية لقطاع البناء، فإن الشركات الرائدة في هذا المجال تعمل اليوم بجهد أكبر من أي وقت مضى لتحقيق ممارسات مستدامة، ومن بين تلك الممارسات يمكن الإشارة إلى استخدام الطاقة المتجددة، والمواد القابلة لإعادة التدوير، وتقليل استهلاك الطاقة والنفايات في عملية البناء، إلى جانب تعزيز الاستفادة من تقنيات الألواح الشمسية والعزل.

وكما تشير تقارير EcoMENA فإن نمط البناء في منطقة الشرق الأوسط أصبح اليوم يركز على تطبيق نماذج الهندسة المعمارية الصديقة للبيئة، وممارسات البناء المستدامة، مع ظهور تصاميم المباني الخضراء كأولوية قصوى في المنطقة، بالإضافة إلى ذلك احتل الابتكار مؤخرًا مكانة عالية على جدول أعمال المختصين، وعلى سبيل المثال تهدف استراتيجية الطباعة ثلاثية الأبعاد في دبي إلى ضمان تشييد ربع المباني المحلية بحلول عام 2030 باستخدام التكنولوجيا، مما يقلل من نفايات البناء وتكاليف نقل المواد، كما وضعت المملكة العربية السعودية أهدافًا طموحة مماثلة لبناء 1.5 مليون منزل باستخدام تقنيات مبتكرة مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد والروبوتات بحلول عام 2030 وقد أنشأت بالفعل أكثر من 40 مصنعًا تركز على هذه التقنيات في البناء.

وعلى الرغم من وجود مخاوف بشأن ارتفاع الكلفة فيما يخص المباني الخضراء، فإن مجلة Construction Week (كونستراكشن ويك) تفيد بأن المقاولين في منطقة الشرق الأوسط، مثل شركة أكسيونا الإسبانية Acciona وشركة ASGC الإماراتية، يبرهنون من خلال جهودهم على أهمية أن يكون لدينا وعي اجتماعي وبيئي يحقق نموذج عمل داعم للبناء المستدام ومربح في ذات الوقت.

لقد قطعت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة شوطًا واسعًا في سبيل تطوير مبان مستدامة وموفرة للطاقة، ومن بينها عشرات المشاريع التي اعتمدها نظام تصنيف التصميم الأخضر المعترف به دوليًا LEED (ليد)، كما حدّد المجلس الأمريكي للأبنية الخضراء بعض المشاريع العام الماضي و كان من بينها مجمع الملك سلمان للطاقة في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى ذلك يتم العمل على إنشاء مدينة صناعية ناشئة تغطي مساحة 50 كيلومترًا مربعًا، حيث أشاد المجلس بالتزامها المتميز بتطوير حلول البناء المستدامة.

أما على الصعيد الداخلي في المملكة العربية السعودية فقد أطلقت مؤخرًا نظام تصنيف المباني الخضراء الخاص بها مع التركيز على الحفاظ على المياه والطاقة باتباع قوانين مماثلة في دبي وأبو ظبي حيث يجب أن تمتثل لها جميع مشاريع المباني الجديدة.

وحتى نعلم مستوى الامتثال في تطوير مدينة مثل مدينة مصدر في أبو ظبي، فيكفي معرفة أنه يجب تشييد المباني باستخدام الأسمنت منخفض الكربون، والألمنيوم المعاد تدويره بنسبة 90%، وتقليل استهلاك الطاقة والمياه بشكل منقطع النظير.

ويمكننا اليوم أن نقول بأن أكبر محرك بناء مستدام في المنطقة هو استراتيجية رؤية المملكة العربية السعودية 2030، وهي بمثابة جهد واضح وطموح لتنويع اقتصاد المملكة القائم على الهيدروكربونات والحفاظ عليه، وحتى تتحقق تلك الأهداف فإن الاستراتيجية تتبنى مجموعة واسعة من مشاريع الطاقة المتجددة والمحافظة على البيئة، فضلاً عن تعزيز تصميم المباني الخضراء في العقارات الجديدة والبنية التحتية والمناطق الحضرية، ونستطيع أن نشير إلى مدينة نيوم كمثال على ذلك التي تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار، والتي تم تصميمها بحيث تكون أول مدينة في العالم تصل فيها درجة الكربون إلى الصفر.

ومع كل ذلك، سيتطلب من الحكومة التحرك نحو المزيد من البناء الصديق للبيئة في أنحاء المنطقة ودعم كبار المسؤولين التنفيذيين المحليين لتعزيز هذا التوجه. ونستطيع أن نقول بأن مؤشرات القبول تبدو جيدة إلى حد كبير في هذا الصدد، وفقًا لاستطلاع قامت به شركة Honeywell شمل 300 من قادة الأعمال وصناع القرار في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، قال 84% من المشاركين أن إدارة الطاقة والاستدامة تمثل أهمية قصوى لمنظماتهم، وقال الكثير منهم إن أهميتها قد ازدادت في الآونة الأخيرة.

إن أحد قادة الأعمال الذين يدافعون بقوة عن ممارسات البناء المستدامة هو مشعل بن عميرة، الرئيس التنفيذي لمجموعة شركة عبد الله العثيم للاستثمار، وهي شركة رائدة في مجال إنشاء وإدارة وتشغيل مراكز التسوق بالمملكة العربية السعودية؛ حيث تستقطب مجمعاتها خمسين مليون زائر سنويًا.

يسعى بن عميرة -الذي عمل سابقًا في عدد من أكبر الشركات في المملكة- إلى جعل العثيم وجهة التسوق والترفيه الرائدة في المنطقة لكل من المستأجرين والمتسوقين، ويعكس هذا النهج التزام الشركة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية للمملكة بما يتماشى مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030.

يحرص بن عميرة أيضا على ضمان توافق جميع أصول الشركة الحالية والجديدة مع أعلى معايير الاستدامة، وكما ذكر: “تمامًا كما استثمرنا في الأشخاص الذين لديهم بعض سياسات الموارد البشرية الأكثر تقدمًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإننا نعطي الأولوية لحماية البيئة وكفاءة الطاقة في نهجنا لإدارة التشييد والبناء “.

“الحكومة مصممة على تحقيق أهداف تغير المناخ، وباعتبارنا كيان مؤسسي له جذور محلية قوية للأعمال العائلية، تسعى العثيم لتقديم دور جوهري في الجهود المبذولة لتأمين مستقبل مستدام للمملكة العربية السعودية والمنطقة ككل”.

لقد تصدرت بدايات تحول الشرق الأوسط إلى الطاقة المتجددة عناوين الأخبار مؤخرًا نظرًا لهيمنة إنتاج الهيدروكربونات على اقتصاد الخليج، لكن الثورة الخضراء التي بدأت تتشكل بوضوح في صناعة البناء لا تقل أهمية – ويمكن أن تساهم بشكل كبير في تقليل البصمة الكربونية للمنطقة.

هذا المقال تم نشره بصحيفة EUthinkTank بتاريخ 31 من مارس للعام الجاري، حيث يستعرض فيه الكاتب التحول نحو البناء الأكثر استدامة في المنطقة

كتبه: مشعل بن عميرة