الحقيقة أنني كغيري توقعت أن يخرج الشيخ بسام جرّار معتذراً للشعب الفلسطيني؛ عن حساباته التي أشغلته ليشغل بها نسبة لا بأس بها، بعد أن تجاوزنا شهر حزيران الذي حدده لزوال إسرائيل بين آذار ونهاية حزيران، قائلاً في السابق: «إن لم تزُل إسرائيل في هذا التاريخ تكن عجيبة من العجائب»، أو بالحد الأدنى توقعنا للرجل انسحاباً هادئاً ومريحاً له من تلك المساحة التي أشغلها في الفضاء العام بلا جدوى، كالرجل الذي دخل على الخليفة أبو جعفر المنصور ليريَه مهارته في ألعابه، فأخرج إبرة ورماها على الأرض، وأخذ أخرى فرشقت في ثقب الأولى، وهكذا مائة إبرة والناس في دهشة لمهارته، فلما انتهى من ألعابه قال الخليفة: أعطوه مائة درهم على مهارته، ثم اجلدوه مائة جلدة؛ لأنه أضاع وقت المسلمين فيما لا يفيدهم ولا ينفعهم.
هكذا حال جرّار الذي أضاع وقت الناس بما لا يفيدهم، وبدلاً من الانزواء خرج بفيديو جديد – بعد نفاد الوقت الذي حدده بدقة متناهية – لا معتذراً ولا طالباً الصفح بل مهاجماً كل من تعارضوا معه، كأن هناك مؤامرة عليه من الذباب الإلكتروني، ومن بشار الأسد وإيران وروسيا، ومن الشيوخ الذين لم يفهموا علمه الذي جاء به من القرآن ومن سورة الإسراء، وكأن كل علماء الدين قبله على هذا القدر من الجهل في قراءة وتفسير الآيات، وهو الوحيد الذي اكتشفها كما أرخميدس، صارخاً في وجوهنا لثلاثة عقود وهو يقول: «وجدتها».
هل تستحق قصص بسام جرّار مقالاً آخر في «الأيام»، وحجز تلك المساحة من وقت القراء لملاحقة ما يقول؟ هذا ما فكرت به قبل كتابة المقال، والذي اضطرني لسماع فيديو جديد لأكثر من ساعة لم يقل فهلوة عن فيديوهاته السابقة، بل بدا الرجل يوزع اتهامات ويحلل سياسة متناقضة، جامعاً بين الشرق والغرب، محاولاً التبرير بشكل هجومي استعلائي، وممسكاً بأحداث عادية يجعل منها تحولات تاريخية تصب في مصلحة تنبؤاته، والأسوأ أنه يستند إلى سخرية شخصية، لا مثل إيدي كوهين وأفيخاي أدرعي، لتأكيد نظرياته حتى بعد فوات الوقت الذي تحدى به الجميع، فهو الذي حدد وليس الآخرين.
نعم، يستحق الأمر النقاش؛ لأنه يندرج في سياق الصراع بين التجهيل والتنوير في مجتمع هو أحوج للعلم منه للخرافة، والبناء الحقيقي.. الواقع، وليس الأسطرة كقراءة لهذا الواقع، وتطويره وليس بيع الوهم. نعم، في صراع التنوير فقد وجّه الشيخ جرّار الضربة الأكبر لمدرسة الخرافة؛ لأن قصته تمددت على مساحة ثلاثة عقود.
ماذا حصل في الخامس من آذار؟ يجيب الشيخ بنوع من التلعثم، محاولاً أن يجعل من حدث هامشي حدثاً كونياً: ألم تروا؟ هكذا يسأل ويجيب: لقد ذهب رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت في زيارة إلى موسكو سراً، معتبراً أن تلك واحدة من مقدمات زوال إسرائيل. كيف يفسر الرجل؟ هذا هو مستواه، فقد ذهب بينيت حينها بتوصية من المؤسسة الأمنية التي أوصت ألا تتخذ إسرائيل موقفاً من الحرب في أوكرانيا؛ لأنها تقع بين قطبين لتل أبيب علاقات أمنية مع كل منهما، والأفضل أن تتخذ دور الوسيط وحينها لن يطلب أحد من الوسيط موقفاً في الحرب، وكان ذلك جزءاً من الدهاء الإسرائيلي، فكيف يفسرها على أنها علامة من علامات الزوال؟
في اليوم الذي حدده، وهو التاسع والعشرون من حزيران، يوم الزوال الأخير، يسأل بسخرية: ألم تروا ما حدث؟ ثم يجيب: حدث أن تم حل الكنيست. ما علاقة حل الكنيست بزوال الدولة؟ وهل هذا هو الزوال الذي أرهق نفسه به؟ لقد تم حل الكنيست ليقوم النظام السياسي بتجديد نفسه بعد أن شهد هذا الاستعصاء، وحفاظاً على القانون، وليتم تمديد قانون المستوطنين تلقائياً، يذهب لانتخابات يُحرم منها الفلسطينيون بسبب صراعاتهم وحزبيتهم التي طغت على الوطن. صحيح أن تكرار الانتخابات بات يشكل اضطراباً للنظام السياسي في تل أبيب، ولكن لم يؤثر على المؤسسة في الدولة التي تدير كل شيء. فالصراع بين أقطاب النظام السياسي هو صراع بين «الهواة»، حسب وصف بن غوريون؛ لأن قرار الدولة وضع في أيدي مؤسسات الأمن القومي، وتلك من تدير الدولة.
يائير لابيد رئيس الوزراء التاسع عشر، وهذا الرقم يعزز نبوءة الشيخ…! يكتشف ذلك وهو يبتسم كأنه يقول: وجدتها، مستنداً إلى دولة إسرائيل، كما يقول، التي أقيمت سابقاً بعد الانشقاق عن دولة يهودا وسقطت في عهد الملك التاسع. وهذا أخطر ما جاء في حديثه؛ إذ يشكل اعترافاً صريحاً بالوجود اليهودي في فلسطين، وهو يتكئ على مقولات التوراة وأساطيرها لتأكيد الوجود اليهودي، وهو ما يتنافى مع العلم ومع كل ما قدمه علماء الآثار اليهود، أبرزهم فلنكشتاين الذي نفى أن يكون اليهود قد مروا من هنا؛ لأن علم الآثار الإسرائيلي لم يتمكن حتى الآن من العثور على أي دليل. ولكن من أجل أن يبرر الرجل فهلوته، يسقط فيما هو أخطر، مؤكداً ما يقوله اليمين الديني والقومي الذي يبرر إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين.
المشكلة لم تكمن في الشيخ بسام جرّار وحده، فمن حق أي أن يقول ما يشاء، لكن المشكلة كانت في الذين اتبعوه من المريدين، وهو ما يطرح سؤالاً على العقل الجمعي الفلسطيني: هل لأن نبوءات جرّار كانت تدغدغ عواطفه الوطنية، أم لأن منطق التفكير لدى ذلك العقل الجمعي أميل لهذا المستوى من الفهم والتحليل بعيداً عن العقل في منطقة شهدت هزيمة العقل مبكراً، ولاحقت مفكريها وأهل العلم والعقل، ونصبت علماء الكلام مرجعية لشعوبها في الخاصة والعامة، جرّار هو ابن هذه المنطقة، لاقى رواجاً لا يمكن التقليل من حجمه.. كيف؟ ولماذا؟ وهذا ما يطرح أسئلة أكبر في إطار الصراع الذي لم يحسم في هذه المنطقة بين العقل والخرافة.
مقتل رئيس وزراء اليابان السابق، شينزو آبي، وضعه الرجل في سياق تأكيد نظرياته بزوال إسرائيل، هكذا جاء في الفيديو، والحقيقة تلك ومثيلاتها كانت قمة الاستخفاف بأمة وشعب لولا أن وجد رواجاً لما استمر لثلاثة عقود. والأسوأ أنه مستمر في العناد والتحدي ومهاجمة الآخرين كأن هناك مؤامرة تحاك ضد الرجل، ولم يتراجع؛ معتبراً أن الذين يقفون ضده مجموعات من المتآمرين الجهلة، أما الذين يؤيدونه فهم متعلمون دارسون ومستواهم عالٍ، كما يقول، وجامعيون وباحثون، وهناك ممّن يعارضون هم مرضى نفسانيون، هكذا يبلغ حجم ادعاء الحقيقة لدى الرجل، بتسفيه كل من يتعارض معه وهو يتحدث بتعالٍ واستهزاء بالآخرين، والعناد لدى الرجل أكبر من أن يمكن فهمه، فهو الذي حدد موعد نهاية حزيران.
أزمات إسرائيل تحدث عنها كثير من القادة، وهي أزمات داخلية تشكل تهديداً للمجتمع الإسرائيلي، ومنها زيادة نفوذ المتدينين لأنهم لا يصلحون للسياسة، ويمكن أخذ جرّار لدى الفلسطينيين نموذجاً، فإسرائيل تعتبر هذا العقل خطراً على إدارة الدولة، ولا تجد وسيلة لإيقاف زيادتهم وزيادة مكانتهم وسيطرتهم على النظام السياسي، بالإضافة إلى زيادة الهوّة بين الإثنيات والعرقيات، والتي تعكسها طبيعة الأحزاب التي يمثل كل منها إثنية محددة، وإن تمكنت إسرائيل من تجميعهم في برلمان وجيش للصهر، كما قال مؤسسها، لكن طبيعة الحكومات الأخيرة التي تشكل وحدة الاستقطاب في المجتمع تعكس تلك الأزمة.
هذا يعني أن على الفلسطيني أن يدرس نقاط الضعف، ونقاط قوته وأولها الوحدة، وكيف يمكن أن يبني مؤسسة ونظاماً وقانوناً وعلماً ومجتمعاً سوياً، ويجري انتخابات بموعدها ويحترم الآخر، وأن يعزل ويحاصر العقل اللاعلمي مثل جرّار، ويحد من انتشاره، وهذه مسؤولية المجتمع أيضاً.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0