بتاريخ 6 أيلول 2024، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي المتضامنة الأميركية من أصول تركية عائشة نور إزغي إيغي (26 عاماً)، بإصابة مباشرة بالرصاص الحي في الرأس، وذلك أثناء مشاركتها في مسيرة سلمية في بلدة بيتا جنوب نابلس خلال احتجاجات ضد التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية.
ونتيجة الانتقادات الواسعة، ولأن الشهيدة تحمل الجنسية الأميركية اضطرت سلطات الاحتلال لفتح تحقيق في الجريمة، والذي انتهى بادعاء أن الإصابة كانت بالخطأ، وأن المقصود كان أحد المتظاهرين المؤثرين! وهذا تبرير سخيف وعنصري، وعذر أقبح من ذنب، بل هو إدانة لإسرائيل، واعتراف منها بأنها تتعمد إطلاق الرصاص الحي بهدف القتل ضد متظاهرين مدنيين في مسيرة سلمية.
قتل المتضامنة عائشة ليست الجريمة الأولى في تاريخ دولة الاحتلال، بل حلقة في مسلسل طويل مارست فيه إسرائيل جرائم القتل والتنكيل والاعتقال ضد متضامنين أجانب، سنستعرض تالياً جزءاً منها.
لعل أشهر حالات قتل متضامنين أجانب تمثلت في تعمد قتل المتضامنة الأميركية “راشيل كوري” (23 عاماً)، عندما كانت تحاول منع جرافة إسرائيلية من هدم منزل عائلة في رفح بتاريخ 16 آذار 2003 فدهستها مع أن سائقها كان يراها بوضوح. وبتاريخ 13 كانون الثاني 2004 قتلت قوات الاحتلال المتضامن البريطاني “توم هنردل” (23 عاماً)؛ حين قصفت مدفعية إسرائيلية ساحة ملعب في رفح يتواجد فيه عددٌ من الأطفال، فما كان منهم إلا أن فرّوا مسرعين باستثناء طفلين جمّد الخوف عروقهما وشلّ الرعب أطرافهما فهبَّ توم لمساعدتهما على الهرب، فنجح في سحب الطفل الأول إلى مكان آمن، وعندما عاد لجلب الطفل الثاني، أصيب برصاصة في رأسه أطلقها قناص، فقُتل على الفور.
وبتاريخ 2 أيار 2003 قتل الاحتلال بالرصاص المتضامن البريطاني “جيمس هنري ميللر” (34 عاماً) عندما كان يصور فيلماً وثائقياً في غزة لهيئة الإذاعة البريطانية لرصد واقع الأطفال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وبتاريخ 12 آذار 2002 قتل الجيش الصحافي والمصور الإيطالي “رافاييل سيريلو” أثناء تغطيته اجتياح مدينة رام الله.
وفي آب 2009 في جنين أُصيب المتضامن الأميركي “براين إيفي” برصاصة في وجهه، فقد على إثرها معالم وجهه بالكامل، وفي نِعْلين تعرض المتضامن الأميركي “كريستين أندرسون” لرصاصة مطاطية في عينه ونقل إلى المستشفى وهو في حالة موت سريري.
وفي 31 أيار 2010 هاجمت قوات البحرية الإسرائيلية السفينة التركية مرمرة، على مقربة من شاطئ غزة، وكانت السفينة تحمل على متنها مساعدات إنسانية وإغاثية وأدوية، وتقل 750 ناشطاً في حقوق الإنسان والسياسة، ينحدرون من 37 دولة، فقتلت عشرة من الأتراك، أحدهم يحمل الجنسية الأميركية، فيما أصيب أكثر من 56 آخرين.
هذا عن سجل الاستهداف المتعمد، أما سجل الإصابات والتنكيل والاعتقال والمضايقات فهو أكبر بكثير.. فمثلاً بتاريخ 24 نيسان 2009 تعرضت الناشطة الإيرلندية “ميريد كوريغان” لرصاصة في رجلها، وهي المناضلة العالمية الحائزة على جائزة نوبل للسلام العام 1976. وفي بِلْعين، تعرضت “لويزا مركانتيني”، نائب رئيس البرلمان الأوروبي لجروح وكدمات في وجهها أثناء مشاركتها في تأبين الشهيد باسم أبو رحمة. وفي تموز 2008 أصيب القاضي الإيطالي “خوليو توسكانو” بجروح وكدمات أثناء مشاركته في تظاهرة احتجاج في بِلْعين. كما تعرض “ليمور غولدشتاين”، وهو محام إسرائيلي تقدمي لإطلاق النار في رأسه مرتين، برصاص معدني. وكذلك أصيب المتضامن الألماني “بيرننغ ذيباوس” بجروح بالغة في وجهه خلال مشاركته في مسيرة سلمية ضد الاستيطان.
وهؤلاء المتضامنون من حركة التضامن الدولية (ISM)، التي تأسست مع بدايات الانتفاضة العام 2000 بمبادرة من مجموعة من الشبان الأجانب من شتى الدول، ومن ضمنهم إسرائيليون مناهضون للاحتلال. ما يجمعهم هو رفضهم للظلم ومقاومتهم للاحتلال ومناهضتهم لكل أشكال الاستغلال والقهر والتمييز العنصري، وقد آمنوا بعدالة القضية الفلسطينية وتعاطفوا مع كفاح أهلها وتركوا حيواتهم الخاصة وجاؤوا ليعبروا عن مواقفهم الداعمة لفلسطين، على الرغم مما تنطوي على هذه الخيارات من مخاطر وتحديات.
وتحاول السلطات الإسرائيلية بشتى السبل منعهم من دخول الأراضي الفلسطينية، أو تقييد حركاتهم، وتحتجز بعضهم وتحقق معهم لساعات، وأحياناً تصادر جوازات سفرهم، وتفتش حقائبهم بدقة، وتوجه إليهم تهم دعم الإرهاب، وتجبر بعضهم على التوقيع على وثيقة بعدم دخول الضفة الغربية أو إقامة أي صلة مع الفلسطينيين، وأحياناً ترغمهم على العودة، وتمنعهم من دخول الأراضي المحتلة للأبد، رغم أن نشاطات هؤلاء المتضامنين غالباً ما تستهدف مساعدة المزارعين الفلسطينيين على الوصول لأراضيهم، أو المشاركة في تظاهرات سلمية لا تنطوي على عنف ولا يمكن وصمها بالإرهاب.
لكن مشكلة إسرائيل مع هؤلاء المتضامنين أنهم وضعوا سمعة إسرائيل الدولية في موقف حرج؛ وبينوا للعالم أنَّ الاحتلال يطلق الرصاص على الأهالي العزل، ويقتل الكثير من الضحايا الأبرياء، وهكذا خسرت إسرائيل سمعتها ورصيدها في الساحة الدولية، وتبددت أكذوبة “الديمقراطية الإسرائيلية”، وفقدت الكثير من القوة الأخلاقية التي كانت تدّعيها في حربها ضد الفلسطينيين. كما أن تعرض المتضامنين الأجانب للأذى انعكس بصورة سلبية على علاقات إسرائيل مع دول الغرب.
لكن دول الغرب (خاصة أميركا) تتجنب إدانة إسرائيل، بل وحتى إلقاء اللوم عليها، وتكتفي بإصدار تعليقات مخففة والطلب بتشكيل لجنة تحقيق (صورية)، حتى لو كان الضحايا يحملون الجنسية الأميركية، كما حدث مع راشيل كوري، وشيرين أبو عاقلة، وعائشة إزغي وغيرهن.. بينما حين قُتل مسن أميركي بالخطأ أثناء اختطاف السفينة أكيلي لاورو العام 1985 حمّلت واشنطن المسؤولية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وظلت تتعقب قائد جبهة التحرير الفلسطينية “أبو العباس” من مصر إلى أوروبا حتى اعتقلته في بغداد سنة 2003، ليموت في السجن، مع أن إسرائيل نفسها سمحت له بالعودة إلى غزة مع السلطة. لكنها أمام جرائم إسرائيل تكتفي بتعليق خجول ومنافق.
للأسف لم يتمكن المتضامنون الأجانب من دخول غزة في هذا العدوان نتيجة المنع الإسرائيلي، وبسبب كثافة القصف وشدته الجنونية، ولكن بعضهم شارك في التضامن من خلال الفرق الإغاثية والطبية التي سُمح لها بدخول القطاع.
أتمنى لو أن مراكز الأبحاث والمؤسسات الحقوقية الفلسطينية تهتم بهذا الموضوع، وتوثق جرائم إسرائيل في مجال قتل المتضامنين الأجانب، بالإضافة لتوثيق جرائمها الأخرى.