هل أدركت أن كل مايدور حولك من أحداث في غزة ليست مجرد صور تتناقلها وكالات الأخبار؟ لذلك يتوجب عليك أن لا تفصل الصورة التي تظهر أمامك بأدق تفاصيلها عن الواقع الذي شوه بأبشع الأسلحة. ومع الدمار الذي أحدث، تبقى حرب الإنسان على الإنسان هي الأفظع على الاطلاق لأن الإنسانية تمر باختبار على مرأى ومسمع العالم.
هل أتعبوك بأدوار مسرحية ألهتك عن حقيقة دموية السفاح والكومبارس. قررت أن أطلق هذا الاسم على هؤلاء، هم البارعون في تلميع كل مايجري ولو على حساب حياة طفل أو طفلة لم تذنب في شئ سوى أنها تنتمي إلى شعب غزة. أينما ذهبت ستعترضك روبوتات تجيد الكلام المنمق في المـناسبات الوطنية و المؤتمرات العالمية.
لكن مايسعك أن تفعل وأنت قابع بين حيطان غرفة أرادوها أن تكون مكان حصارك، بينما هي جعلت لتقديم المساعدة و اسعاف أرواح بشرية لم تعرفها يوما وجها لوجه. إنما اشتركت معها في الانسانية قبل أن تتعرف على أسمائها، أو أعمارها، أو فصلها وأصلها. كيف للحظة كهذه أن تغيب عن مخيلتك؟ كيف لطاغية إذن أن يبرز قوته، إذا لم يظهرها أمام مدنيين عزل؟
دعني أخبرك أن مافعله أي إطار طبي أو صحفي أو أي مدني في غزة لم يفعله أي قائد سياسي أو أي شخص له سلطة. لماذا؟ لأنه وحده الميدان هو الذي اختبر الجانب الانساني فيهم. أما عن تلك الهوة، بين ماتخبرنا عنه العلوم السياسية وبين المهارات التي لايوظفها الحكام عن قصد في مثل هذه الظروف لايقاف حرب ليس لها أي مبرر، فهي تتعمق لأن أغلبهم غير مضطلع بما يلزم لاتقان مهنة ليست كأي المهن.
أن تكون مسؤولا عن حياة شعب وسلامة دولة، يتجاوز الأمر كل قوانين العالم ودساتيره وسلطه. هكذا يتحدث أي شخص مثلي ومثلك لايفقه أمور السياسة، يتعاطف وينفعل من أجل المهازل الواقعة في غزة. لكن للكتاب المخضرمين و المختصين في هذا المجال ومن لديهم نظرة استشرافية، وجهة رأي أخرى لاتهتم بمدى كفاءة قائد سياسي إنما تتعلق أساسا بلعبة المصالح.أما عن الأولويات التي تهم الحكومات، فهي تلك القمم التي تعقدها من أجل حماية كوكب الأرض والتباحث في الانحباس الحراري. بينما يتنافى دفاعهم عن الفلسطيني مع أهدافهم السياسية ولغتهم الخشبية في المحافل الدولية.
ومن هنا، يتحقق قول عبد الرحمان منيف بأن الحكومات تنشغل بالمصالح قبل أي شئ آخر. لامجال أن تتحدث عن المبادئ عند إبادة غزة. ذكر الدكتور محمود خالص في كتابه “التيه المنهجي ومحاولات الإفلات” مثالا في نفس الإطار. هذا ماذهب إليه ألان دونو في كتابه نظام التفاهة أننا وسط لعبة (بمافيه مانقرؤه ونشاهده) يتم استبعاد منها القيم واختزال كل شئ في الحسابات والمصالح والخسارة والربح الماديين والمعنويين. كما قدم مثالا مغايرا عن الأول، وهو كتاب توماس فريدمان” السيارة لكزاس و شجرة الزيتون” ، يخبرنا فيه عن “زوال عصر المعاهدة والذي يرمز إليه بالشجرة(احترام العهود، والصدق في تطبيقها، وتوثيقهاو حفظ حقوق الأطراف) وحلول عصر الصفقة(إيلاء أهمية كبرى للربح بقطع النظر عن طرق الوصول إليه)”.
أكتب كنوع من اللجوء أيضا إلى عالم يخلو من العنف. لكن تعيدك الأحداث إلى هذا العالم مرارا وتكرارا حتى ولو حاولت ذلك. يعني مع الحقيقة التي تصور لنا عبر الشاشات، أنت لا تستطيع بالطبع أن تتحدث بمثالية لاتتلاءم مع هذا الوضع. أنت لاتكتب لتظهر هذا الجانب المثالي الملئ بالقيم الثابتة بينما يتخبط العالم في الرداءة. هل ردات فعلك تجاه مايحصل يجب أن تكون متحضرة حتى و إن خربوا غزة؟
هل هـناك بذاءة أكثر من أجساد متفحمة أو وجوه رماديةأو أطراف مبتورة لطفلة لم تعلم بعد أنها لن تستطيع الكتابة مجددا بيدها، أو أب يحمل طفله ليكفنه بنفسه، أو أم تزف ابنها للشهادة، أو جد يودع حفيدته بكلمات صادقة ومؤثرة. رغم كل ذلك يملأ الاطمئنان قلوبهم (إيمانا بكل مافيهم من رباطة جأش وليس خوفا من مستبد يخال أن كل الخسائر البشرية و التقتيل للأراوح هي علامة انتصار له). و في المقابل لن تجد نسبة ضئيلة منه عند العدو. لأن مايدفع أي محتل لمثل هذه الهمجية هو ضعف مستتر لا أكثر ولا أقل..
سئل الروائي الأرجنتيني خوليو كورتزار عن النقد الحاد وخلق العوالم العنيفة في كتاباته. فكانت إجابته على النحو التالي بأن” هذه العوالم موجودة فعلا وأن على الأدب أن يخرج القارئ من اطمئنانه “. ومن هذا المنطلق، كمواطن عربي أنت مطالب بأن لاتتطمئن أيضا لما يجري في تلك البقعة التي خلتها لوهلة موجودة في كوكب آخر من شدة الخذلان الذي تعرضت إليه.
هذا هو حال الفلسطينيين اليوم يتعرضون لتصفية عرقيةوتهجير قسري ممنهجين. سميتهم أبطالا لأنهم هم وحدهم من يكابد ظلم استيطان صهيوني لأرضهم وبمساعدة منظومة بأكملها. هذا ماجنته الحداثة الغربية على العالم مثلما جسداها مايكل هاردت وأنطونيو نيغري في عبارات المأساة بمشاهدها المختلفة، و السلبية الحديثة، و الحضارة القاسية والتنمية المدمرة.
أكد هرفريد مونكلير أن منطق الامبراطوريات في فرض سيادتها كان مبررا بضرورة فرض السلام في مناطق تفتقر إليه. وجاء تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط بتعلة محاربة الارهاب ولضمان مصالحها الاقتصادية والسياسية مع الحفاظ على اسرائيل كحليف لها. أما المفارقة التي عرفتها فلسطين منذ 1948، هو أن الاستيطان الصهيوني لم يزل يستهدف المدنيين ومانراه من قصف للملاجئ أو المستشفيات أو المباني السكنية هو أكبر دليل على ضعفه.
وكان هدف إسرائيل منذ البداية، هو التلاعب بالسرديات من أجل تبرير احتلال فلسطين. ولغل ما يثير الاستغراب، ماذكره نورمان فرانكشتين في كتابه “مايفوق الوقاحة/حول استخدام اللاسامية وتشويه التاريخ” حول كتاب “منذ زمن سحيق/منابع الصراع العربي حول فلسطيـن” لصاحبته جون بيترز و كيف ساهم في خلق بروبغندا والتسويق للرواية الصهيونية في وسائل الاعلام.
بالإضافة إلى كيف لقي صدى عند مؤلفين في أمريكا، دافعوا بدورهم عن الرواية القائلة بأن “فلسطين كانت فارغة عشية الاستيطان الصهيونـي وعندما استوطن اليهود جعلوها تزدهر. أخذ العرب يهاجرون من الدول المحيطة، ومن الأجزاء الأخرى من فلسطين إلى المناطق اليهودية وتظاهروا بأنهم سكان أصليون.” والمضحك في الأمر أن ماروج دار حول أن “الفلسطيـنيين صاروا لاجئين سنة 1948، بسبب مابثته الإذاعات العربية لتشجيعهم على الفرار منها”. لكن مثلما ذكر، تم تفنيذ ذلك في الستيـنات مع الباحث الفلسطيني وليد خالدي والباحث الايرلندي أيركسـن تشيلدرز.
هذا مادأب عليه الكيان الصهيونـي، التشويه التام للحقائق منذ البداية. وهو يـنم عن ضحالة عقيدة في حد ذاتها. إن لم تجد عيبا أو سوء في الآخر، عليك خلقه لتبرر وجودك وأحقيتك بأرض لست صاحبها. كما تطرق إلى اتجاهين سادا خلال فترة الثمانينيات في مجال حقوق الانسان. ماعليك إلا أن تقرأ وتقارن مع مايحدث حاليا: “الفلسطيني يخضع لألطف أنواع الاحتلال وأكثرها تحررا”. ونجم عن ذلك، ظهور مجموعة من نشطاء حقوق إنسان إسرائليين وفلسطينيين عارضت ما صنعته إسرائيل من انتهاك وسوء معاملة للسجناء الفلسطنيين. بينما ظهرت مجموعة أخرى ساندت ماارتكبته وعلى حد قول الكاتب عن طريق “تبييض صفحتها”أو بالصمت عن الجرائم.
وإن مارأيناه من محاربة للمحتوى الفلسطيني على بعض منصات التواصل الاجتماعي عن طريق الصنصرة، يندرج أيضا ضمن وسائل التلاعب بالسرديات و تضامن هاته المنصات معم يكشف تواطؤ غير مقبول لأننا لانتحدث عن أفراد وإنما لوبيات. هذه الحرب المعلنة لدحض أو تشويه السردية الفلسطينية، لن تجد لها مخرجا.
كان هدف اسرائيل من فبركة فيديوهات الأطفال هو استعطاف الرأي العام الغربي ولعب دور الضحية. ألم يضحكك مشهد صحفية يتم توجيههاوتلقينها من المخرج. هؤلاء يمارسون مهنة التهريج ولايمتون للصحافة بأي صلة، أمثلهم بالكلاب المسعورة التي تعطي الحق لنفسها بتشويه صورة الفلسطيني. والأغرب أنهم اندمجوا في دور الصحفي بسبب انتمائهم إلى مؤسسات إعلامية عالمية، ولم يعلموا أنهم مجرد بيادق تستعمل للتسويق لاغير. وهناك خيط رفيع بين الوقاحة والصراحة. لأنني لا أرى أي مهنية لشخص ينتسب إلى هاته المهنة النبيلة وهو بالكاد يتحلى بالأخلاق الكافية.
أن تنتمي إلى تلك الرقعة الجغرافية، يحتم عليك أن تتعلم منها فن البقاء في عالم لايعترف إلا بنسخ مصغرة من الروبوتات التي تصنع حسب الطلب لتلبي مصالح الأقوياء. إذن كيف لشبر من الكرة الأرضية أن يمر بكل هذا الألم ولا يرفض فكرة الانتماء إلى هذا العالم البغيض. ستخمن في تلك الأحيان، ما الفرق بين عالم الروبوتات و هذا الذي نعيش فيه. سأقول لك حين تتجرد دول أو حكومات من أدنى تعاطف شرعي مع مايحصل بدافع انساني لاغير، يحق لغزة أن تعلن استقلالها عن العالم بأكمله.
تونس