صدرت عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» ترجمة كتاب «غزّة: بحث في استشهادها» (2020)، لنورمان فنكلتسين، وقد ترجمه إلى العربيّة أيمن حدّاد. يسرد الكتاب وقائع متداخلة لكفاح الشعب الفلسطينيّ عمومًا، مع التركيز على قطاع غزّة وما حلّ به من مذابح متتالية وحصار خانق.
تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقدّمة الكتاب وهي مقتطفات من مراجعة للكتاب نشرها المفكّر الأمريكيّ ناعوم تشومسكي في الدوريّة الصادرة عن «مجلس سياسات الشرق الأوسط» بتاريخ 19 أيلول (سبتمبر) 2018، بالتعاون مع «مركز دراسات الوحدة العربيّة».
إنّ سبر أغوار الوحشيّة الإنسانيّة مهمّة شاقّة، وحتمًا ليست مهمّة ممتعة. وقد تصدّى الباحث نورمان فنكلستين لهذه المهمّة بحجج محكمة وعاطفة جليّة وعمل بحثيّ مستفيض في كتابه الفذّ «غزّة: بحث في استشهادها». إذ يقول إنّ “هذا الكتاب يعرب عن انفعالات متتالية من الغضب والسخط”، فمن الصعب لنا أن نرى كيف لمرءٍ يمتلك ولو نزرًا يسيرًا من الإنسانيّة ألّا يشعر بهذه الانفعالات إزاء السجلّ القاتم الّذي يتبدّى في هذا الكتاب.
لقد صدرت تقارير مؤثّرة، وغالبًا صادمة، تسرد مأساة غزّة، ومن أكثرها إثارة للغيظ هي الإفادات الحيّة من الميدان أثناء التصعيد الدوريّ للجرائم المرتكبة بحقّ غزّة. كما صدرت دراسات عن لجان تحقيق رفيعة المستوى فوّضتها جماعات دوليّة رئيسيّة معنيّة بحقوق الإنسان، وقد تمعّن فنكلستين فيها جميعًا في بحثه. وثمّة أعمال أخرى أنتجها صحافيّون وباحثون بارزون عزّزت فهمنا للأحداث. بيد أنّ بحث فنكلستين باتّساع نطاقه ودراسته المعمّقة وتحليله النقديّ الحاذق، ينفرد لوحده في منزلة خاصّة به.
يشير فنكلستين في ختام بحثه إلى تحذيرات «مؤتمر الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية» (الأونكتاد) وغيره من الراصدين الدوليّين من أنّ غزّة قد تصبح غير قابلة للعيش، وبالمعنى الحرفيّ للكلمة، ابتداءً من عام 2020 “بسبب تثبيط التنمية المستمرّ، وثماني سنين من الحصار الاقتصاديّ وثلاث عمليّات عسكريّة” بين عاميّ 2009 و 2014.
العقاب الجماعيّ: على شفا الموت جوعًا
بعد زيارة قام بها المفوّض العامّ لـ ا«لأونروا»، بيير كرانبول، إلى المراكز الصحّيّة في غزّة بعد الفظائع الإسرائيليّة في ربيع عام 2018 [أثناء مسيرات العودة الكبرى]، قال إنّه وجد مشاهد “صادمة تثير كدرًا عميقًا”، بما في ذلك “نمط دخول الرصاص وخروجه من أجساد المصابين الّذي يدلّ على استخدام ذخائر بقصد التسبّب بأضرار جسيمة لأعضاء الجسم الداخليّة وللأنسجة العضليّة والعظام”. تظاهرت إسرائيل بوجود دوافع أمنيّة لهذه الجرائم، بيد أنّ فنلكستين يستعرض هذه الحالات بالتفصيل، ويُظهر زيف هذا التظاهر؛ فقد كان يكفي إسرائيل أن تنفّذ حلًّا إنشائيًّا لسدّ الطريق أمام الناس اليائسين الّذين يواجهون كارثة، ويطالبون بالعودة إلى البيوت الّتي طُرِدُوا منها بوحشيّة. كان يمكن تجنّب العنف لو قبلت إسرائيل عرض «حماس» – الّذي قدّمته مرّة تلو المرّة – بالتوصّل إلى وقف طويل الأمد لإطلاق النار [هدنة]. وقد تجاهلت إسرائيل هذه العروض من دون حتّى أن تعلّق عليها.
غزّة قد تصبح غير قابلة للعيش ابتداءً من عام 2020 “بسبب تثبيط التنمية المستمرّ، وثماني سنين من الحصار الاقتصاديّ وثلاث عمليّات عسكريّة” بين عاميّ 2009 و 2014…
يتناول فنكلستين «الانفصال» الإسرائيليّ في أيلول (سبتمبر) 2005 الّذي استمرّت إسرائيل بموجبه كقوّة محتلّة، وهو ما أقرّت به حتّى الولايات المتحدة. فهم المتشدّدون الإسرائيليّون بحلول ذلك الوقت أنّ من غير الجدير نشر جزء كبير من قوّات الجيش الإسرائيليّ لحماية بضعة آلاف من المستوطنين الّذين يحتلّون جزءًا كبيرًا من أراضي غزّة ويستأثرون بمواردها الشحيحة.
أوضح دوف واينغلاس، وهو المسؤول المخوّل، المنطق الرسميّ للانسحاب بـأنّه ’سيجمّد‘ العمليّة السياسيّة وسيؤدّي إلى “منع إقامة دولة فلسطينيّة”. وأضاف أنّ الغزّيّين سيظلّون ملتزمين “بحمية غذائيّة، ولكن من دون دفعهم للموت جوعًا”، وذلك أمر لن يبدو جيّدًا أمام العالم. وقد اتُّبِعَتْ هذه التعليمات بدقّة خبيرة، ولكن ثمّة شواغل حاليًّا بأنّ عمليّة الخنق قد تكون من الشدّة بحيث لن يكون من الممكن تجنّب ردّ فعل عالميّ.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، تمّ التوصّل إلى اتّفاقيّة لوقف إطلاق النار. وقد صمدت الاتّفاقيّة بضعة أسابيع حتّى ارتكب الفلسطينيّون جريمة كبرى، فقد أجروا انتخابات اعتُبرت حرّة ونزيهة، لكنّهم انتخبوا الجهة الخطأ: «حماس». استجابت إسرائيل والولايات المتّحدة بتصعيد العنف وفرض عقوبات شديدة، في حين تبعهما الأوروبيّون بوجل. وقد لجأت الولايات المتّحدة إلى إجراءاتها المعياريّة الموحّدة في مثل هذه الحالات؛ إذ نظّمت انقلابًا عسكريًّا، ولكن استبقته «حماس» في عام 2007، وهو ما شكّل جريمة أكبر من جانب «حماس» وجلب عليها عقوبة أقسى.
يستعرض فنكلستين هذه الأحداث وما تبعها استعراضًا دقيقًا وشاملًا. ويوضّح أنّ النمط الأساسيّ يتمثّل في إبرام اتّفاق لوقف إطلاق النار، فتلتزم به «حماس»، إلا أنّ إسرائيل لا تكترث به وتقرّر أن تصعّد العنف بصفة دوريّة، وهو ما يثير ردًّا من «حماس»، ثمّ تتّخذ إسرائيل من هذا الردّ ذريعة لعمليّتها التالية «جزّ العشب»، حسب أسلوب التعبير الإسرائيليّ. ويترافق ذلك مع استنكارات لإرهاب «حماس» يكرّرها طوعًا المعلّقون الأمريكيّون، وغالبًا المعلّقون الأوروبيّون.
يخضِع فنكلستين هذه التبريرات لعمليّات التصعيد الإسرائيليّة لتحليل دقيق، ويُظهر على نحو مقنع بأن لا علاقة لها بالمخالفات الفلسطينيّة. بل إنّها نابعة من الاحتياجات الاستراتيجيّة الإسرائيليّة لإظهار قوّة ردع من خلال تدمير غزّة العزلاء بعد الإخفاقات الإسرائيليّة، كما حدث في لبنان عام 2006؛ أو لمنع التوصّل إلى تسوية سياسيّة. حسبما يناقش فنكلستين، ثمّة تهديد خطير بصفة خاصّة، وهو الوحدة المحتملة بين «حماس» والسلطة الفلسطينيّة، فمن شأنها أن تقوّض الذرائع الإسرائيليّة للتملّص من المفاوضات، وأن تهدّد البرنامج الأمريكيّ – الإسرائيليّ لفصل غزّة عن الضفّة الغربيّة، والّذي بدأ تنفيذه بعد فترة وجيزة من «اتّفاقيّة أوسلو» الّتي ألزمت الطرفين الموقّعين باحترام الوحدة الترابيّة للأراضي المحتلّة.
تكميم الأفواه: غولدستون والجبناء
يوضّح فنكلستين أنّ موضوعه الأساسيّ هو “التقارير المعنيّة بحقوق الإنسان في غزّة”، الكبيرة العدد عمومًا، والّتي “التزمت بمعايير الدقّة، وسجّلت سيرة البؤس والمعاناة… والقسوة والتعسّف الإجراميّ”. وكان مصير هذه التقارير، كمصير التقارير الاقتصاديّة الّتي استعرضها فنكلستين، هو التجاهل في ما عدا كادر ضيّق من المتخصّصين – و”في نهاية المطاف خضعت أوساط حقوق الإنسان نفسها لإسرائيل وقوّتها الجامحة”.
يخضِع فنكلستين التبريرات لعمليّات التصعيد الإسرائيليّة ويُظهر أن لا علاقة لها بالمخالفات الفلسطينيّة. بل إنّها نابعة من الاحتياجات الاستراتيجيّة الإسرائيليّة لإظهار قوّة ردع من خلال تدمير غزّة العزلاء…
يشرّح فنكلستين هذه “الخيانة” الأخيرة تشريحًا دقيقًا بمبضعه، وهي تمثّل دليلًا مخزيًا على انتهازيّة إسرائيل وجُبن دول الغرب؛ فبعد أن استعرض فنكلستين «تقرير غولدستون» [الّذي توصّل إلى نتيجة لا يمكن تجنّبها بأنّ الفظائع الإجراميّة للجيش الإسرائيليّ وسعيه لـ “إذلال الشعب الفلسطينيّ وامتهان كرامته” هي “سياسة متعمّدة”]، كرّس فصلًا كاشفًا تناول فيه الهجوم الخبيث الّذي ترك غولدستون في نهاية المطاف رجلًا مكسورًا، أُجْبِرَ على التنكّر للتقرير الّذي أصدرته اللجنة الّتي يرأسها – وقد تنكّر لوحده دون سائر أعضاء اللجنة الّذين صمدوا وشدّدوا على استنتاجاتهم. وكما يبيّن فنكلستين، لم يقدِّم غولدستون أيّ أساس لتنكّره، ولكن نظرًا إلى الهجمات الشخصيّة الّتي تعرّض لها وحملة التشويه والقذف الحاقدة، والّتي شملت حياته الشخصيّة، من الصعب أن نوبّخه.
عملت هذه الحملة على ترهيب جهات أخرى أيضًا، خصوصًا «منظّمة هيومان رايتس ووتش» الّتي واجهت “حملة شعواء” نسّقها ليس فقط «المبرّرون المزمنون» لإسرائيل من قبيل آلان ديرشويتز وإيلي ويزل، ولكن طائفة أخرى من الأشخاص أيضًا. وبحلول الوقت الّذي جرت فيه عمليّة «الجرف الصامد» عام 2014، كانت «منظّمة هيومان رايتس ووتش» قد انسحبت من الساحة، وبالكاد تجاوز عملها تكرار الاستنكارات الّتي أطلقها الأمين العام لـ «الأمم المتحدة»، وإدارة الرئيس أوباما الخانعة عادة. يقيّم فنكلستين الحجّة بأنّ أوباما يجب أن يُعتبر «المتيح الرئيسيّ» لهذه الجريمة الوحشيّة، إذ أَحْجَمَ بُعَيْد انتخابه عام 2008 عن التعليق على الجريمة الّتي سبقتها، «عمليّة الرصاص المصبوب»، والّتي توقّفت ومن باب المصادفة في اللحظة الّتي تسلّم أوباما فيها مقاليد منصبه، الأمر الّذي أتاح له إصدار دعوة، تتيح له أن يبدو رجل دولة رصينًا، للتطلّع نحو المستقبل وترك الماضي خلفنا.
يتحوّل فنكلستين بعد ذلك إلى التحليل الشامل للتحقيقات الّتي أجرتها «منظّمة العفو الدوليّة» بشأن «عمليّة الجرف الصامد» – الهجوم الإسرائيليّ الأكثر تدميرًا من بين الهجمات الإسرائيليّة الأخيرة على غزّة – متجاوزة حتّى الجرائم الفظيعة الّتي جرت في «عمليّة الرصاص المصبوب». يستنتج فنكلستين أنّ «منظّمة العفو الدوليّة» “بدلًا من أن تلتزم الصمت حيال الجرائم الإسرائيليّة أثناء «عمليّة الجرف الصامد»”، اقتداءً بالمسار الّذي اختطّته «منظّمة هيومان رايتس ووتش»، فقد “عملت على تبرئة إسرائيل من هذه الجرائم”، وركّزت بدلًا من ذلك على انتهاكات «حماس» الانتقاميّة لقانون حقوق الإنسان، والّتي بالكاد يمكن مقارنتها بانتهاكات إسرائيل.
عندما نجحت إسرائيل في تحييد أوساط حقوق الإنسان، “بقي مصدر الإزعاج الوحيد لها هو النقد المحلّيّ”، وكان أشدّه فاعليّة إفادات الجنود شهود العيان من «منظّمة كسر الصمت». ولم ينج الجنود من الهجمات الشديدة الّتي تستهدف الّذين يجرؤون على كشف أفعال “الجيش الأكثر أخلاقيّة في العالم” حسبما يصف نفسه. وأعلن آلان ديرشويتز “إنّهم لا يقولون الحقيقة” معتبرًا أنّ هذا التصريح كاف لحسم الأمر.
فصل من فصول الإبادة المنسيّة
يؤكّد فنكلستين أنّ الضربة الساحقة بالفعل ضد سكّان غزّة هي الحصار الطويل الأمد، والمصمّم لمنع سير الحياة العاديّة أو الانتعاش من الحلقات المتتابعة من «جزّ العشب». لقد جرت محاولات شجاعة ومشرّفة لجلب مساعدات اشتدّت الحاجة إليها للضحايا عبر البحر؛ وقد جابهت إسرائيل كلّ قوافل سفن المساعدات بالعنف. يكرّس فنكلستين قسمًا طويلًا لأفظع حلقات هذا العنف، الهجوم على سفينة «مافي مرمرة»، الّذي يمثّل عرضًا بشعًا للوحشيّة والجبن، وما تبعه من تلفيقات للتغطية على الجريمة، تحت ضغط من الولايات المتّحدة وإسرائيل.
في ملحق الكتاب، يستعرض فنكلستين بتأنٍّ سجلّ السوابق القانونيّة، خصوصًا ما يتعلّق بجنوب أفريقيا، ليرسي نتيجة بأنّ الاحتلال نفسه، وليس فقط إجراءات فرضه، “بات غير قانونيّ بموجب القانون الدوليّ”، وهذا الملحق بحدّ ذاته هو مساهمة أصيلة ومهمّة في هذا المجال.
يتوقّع فنكلستين أن يتعرّض بحثه المُمِضّ للتجاهل وسيطويه النسيان، كما حدث لكتاب جاكسون، وربّما سيُكتَشف يومًا ما، بفعل السخط إزاء ما جرى لأناس “خانهم بشر فانون جشعون جبناء انتهازيّون”
في ختام بحثه، يستحضر فنكلستين السرد المذهل الّذي وضعته الباحثة هيلين هنت جاكسون في كتابها «قرن من العار» (A Century of Dishonor) الصادر عام 1881 حول “أحداث تدمير سكّان أمريكا الأصليّين بموجب سياسة حكوميّة واعية ومقصودة”. وقد تمّ تجاهل الكتاب ثمّ طواه النسيان، لكنّه اكتُشف من جديد بعد مرور نحو قرن من جرّاء التأثير الحضاريّ للنشاط السياسيّ الشعبيّ. يقول فنكلستين: “هذا الكتاب يقتفي أثر التأبين المُمِضّ الّذي أصدرته جاكسون”. وهو يتوقّع أن يتعرّض بحثه المُمِضّ للتجاهل وسيطويه النسيان، كما حدث لكتاب جاكسون، وربّما سيُكتَشف يومًا ما، بفعل السخط إزاء ما جرى لأناس “خانهم بشر فانون جشعون جبناء انتهازيّون”.
لا يزال هناك وقت للعمل، لكن إذا صحّ تشخيص فنكلستين، “فإن السجلّ الأسود لاستشهاد غزّة” قد يصبح قريبًا عصيًّا على التصويب.