غزّة.. و”المْسَئَّفين” و”الانحياز الجماليّ”! د. كمال ميرزا
2024 Apr,09
هذه الأيام، مجرد أن تُصنّف كمثقّف، وأن تستمرئ هذه الصفة، وأن تُسرَّ بها، فهذا بحدّ ذاته وسم وتهمة قائمة!
فأنّ تكون مثقّفاً وفق المعايير السائدة يعني أن تكون ذلك الشخص النرجسيّ المتنطّع المعتدّ بنفسه، والذي يتعامل بتكلّف وترفّع وفوقيّة مع العوّام والمتخلّفين والرجعيّين والمتزمّتين، والذين لا يرتقون لمستوى “تحرّريته” أو “تقدّميته” أو “استنارته” أو “نهضويته”.. وذلك تبعاً للمشرب، أو كوكتيل المشارب، الذي يستقي منه من بين مشارب حضارة الرجل الأبيض و”حداثته” و”عصريّته” و”رقمنته”!
ومع أنّ غالبية المثقّفين يتغنّون بمصطلح “المُثقّف العضوي” الذي استخدمه “غرامشي” ويستشهدون به، إلّا أن قلّة نادرة منهم تتعامل بروح ومنطق وأسلوب المثقّف العضوي الحقيقي.
وطبعا مفهوم “المُثقّف المُشتبك” الذي دعا إليه الشهيد “باسل الأعرج” لا يلبّي ترف هؤلاء المثقّفين وغرورهم و”برستيجهم”.. بكون هذا المصطلح “وطني” أو “بلدي” وليس “إفرنجي برنجي”!
البعض يُطلق على هذه الفئة تهكّماً اسم “مْسَئَّفين” بدلا من “مُثقّفين”، وللأسف هؤلاء المسئّفين هم السمة الغالبة على مثقّفي هذه الأيام!
ويرتبط بالمثقّفين أو “المْسَئَّفين” مصطلح آخر هو “خيانة المثقّف”، حيث يوجد هناك ثلاثة مستويات لهذه الخيانة:
المستوى الأول هو أن يصمت المثقّف في الوقت الذي يجب أن يتكلّم فيه؛ هذا هو الشكل “القياسي” و”التقليدي” لخيانة المثقّفين.
المستوى الثاني وله شكلان: أن يكون المثقّف بوقاً لسلطة فاسدة، سواءً السلطة بمفهومها الضيّق المباشر، أي السلطة السياسية، أو السلطة بمفهومها الواسع كسلطة رأس المال. أو أن يكون المثقّف مُنظِّراً لقضية فاسدة ومُبشِّراً بها ومُنافِحاً عنها.
المستوى الثالث هو أن يكون المثقّف مُدافِعاً سيّئاً ورخواً وهلاميّاً عن قضية نبيلة وشريفة وعادلة.
ولكن أحياناً تتفتق قريحة المثقّفين أو المسئّفين عن أفعال تُدهشك، وتُبهرك، وتُلجِمك، وتتركك مبهوتاً لا تدري ماذا تقول أو بماذا تصفها.. هل هي “سرياليّة”؟! هل هي “فانتازيا”؟! هل هي مستوى أعمق من الفكر والمنطق والرؤيا يصعب على أمثالك من محدودي التفكير والخيال استيعابها؟!
من جملة هذه الأفعال التي “تفلج” البيان الأخير الذي يتداوله المثقّفون العرب عبر السوشال ميديا، ويعبّرون من خلال التوقيع عليه وإعادة مشاركته وإرساله طواعيةً عن دعمهم الطوعيّ لغزّة!
فبعد ستة أشهر من حرب الإبادة والتهجير المُمنهجة، وبعد عشرات آلاف القتلى والجرحى والمفقودين، وبعد كل أنواع الجرائم والمذابح والفظائع والاغتصاب والتنكيل، وبعد أن كادت غزّة تُسوّى بالأرض، تذكّر المثقّفون العرب، أو ما تُسمّى طبقة “الانتلجنسيا”، إصدار بيان يعبّر عن تضامنهم ودعمهم!
قد يتذاكى أحدهم ويقول: “أن تأتي متأخراً أفضل من ألاّ تأتي إطلاقاً”، ولكن المشكلة في بيان المثقّفين العرب ليس أنّه تأخر لدرجة ما عاد له معها طعم.. بل مشكلة هذا البيان في:
ـ أولاً: فكرة البيان نفسها، وكأنّ غزّة بحاجة إلى بيان آخر يوضع فوق كومة البيانات والتصريحات والإنشاء والخطابة والرطانة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
ـ ثانياً: فحوى البيان، فصحيح أنّ البيان يؤكّد أنّه لا سبيل لصون وإحقاق الحقّ الفلسطيني الساطع إلّا بالمقاومة..
وأنّ فلسطين ليست لعبة ذهنيّة نتسلّى بها في وقت فراغنا..
ويدعو إلى الانحياز إلى ثقافة المقاومة التي تجعل من فلسطين نبراساً للحقّ والحريّة (ما أجمل الكلام!)..
إلّا أنّه عند اللحظة الحاسمة، نجد البيان يقول أنّ انحياز المثقّفين العرب لفلسطين هو “إنحيازٌ جماليّ ضدّ بشاعة الاحتلال، وضدّ بشاعة التواطؤ معه، وضدّ بشاعة الصمت عليه، وبشاعة الذرائع الواهية للصدّ عن مقاومته في كلّ صعيد”!
هذا هو ما تفتّقتْ عنه عبقرية المثقّفين العرب بعد صمت طويل: الانحياز الجماليّ!
فالصراع بالنسبة لهم ليس صراعاً وجوديّاً، وليس صراعاً عقائديّاً، وليس صراعاً إيدولوجيّاً، وليس مشروع تحرر وطنيّ وقوميّ مقابل مخطط إمبريالي استعماري أنجلو سكسوني صهيو – أميركي للهيمنة والاستلاب والتفتيت.. بل هي مسألة انحياز جماليّ وتفضيلات جماليّة!
الانحياز الجماليّ هنا أشبه بأن تقوم معلمة رياض أطفال بجمع الطلاب المشاغبين أمامها، وقرصهم من شحمة أذنهم (دون أن تؤذيهم أو تؤلمهم طبعاً كما تقتضي مبادئ التربية الحديثة) وهي تقول لهم: يا نوتيين!
أيّ مُطّلع على المشهد الثقافي العربي ومتابع لأحواله لا يحتاج إلى مزيد من الجهد والذكاء ليدرك أنّ هذا البيان هو محاولة ممجوجة وغير موفّقة لنفاق الذات، وشراء ماء الوجه، واتخاذ موقف ما كما تقتضي الصفة الاعتبارية للمثقّفين أمام الناس.. وفي نفس الوقت التماس السلامة والعافية، والحفاظ على المصالح الشخصية، أو على الأقل عدم المساس بها..
فهذا المثقّف يتبع لهذه الدولة، وهذا المثقّف يتبع لذلك النظام، وهذا المثقّف محسوب على الجهة الفلانية، وهذا المثقّف يعمل لدى الجهة العلتانية، وهذا المثقّف لا يريد أن يخسر فرصته بالفوز بالجوائز، وهذا المثقّف لا يريد أن يخسر فرصته بتحكيم الجوائز، وهذا المثقّف عينه على التكريم، وهذا المثقّف عينه على النشر، وهذا المثقّف عينه على الشاشات والاستضافات والأضواء، وهذا المثقّف عينه على عقد عمل مُجزٍ ولو بعيداً عن الأضواء، وهكذا دواليك.. ومن دون صيغة معوّمة و”مغمغمة”، وفي نفس الوقت “مْسَئَّفة”، مثل “الانحياز الجماليّ” فلا مجال للجمع والتوفيق بين هذه المتناقضات!
هل “المسئّفين” العرب الحاليين أكثر أهميةً ورهافةً وحِسّاً جماليّاً من “ألبير كامو” مثلاً، والذي لم يمنعه انحيازه الجماليّ، بل ولم تمنعه إصابته بالسلّ في سنٍّ مبكرة، من الانخراط في صفوف المقاومة الفرنسية عندما قامت ألمانيا النازية باحتلال بلاده!
وحتى لا نذهب بعيداً ونقع في إشكالية “الفرنجي برنجي” مرّة أخرى، ماذا عن “يوسف إدريس”، ملك القصة القصيرة في الوطن العربي بلا منازع، والذي لم يمنعه إنحيازه الجماليّ ونشأته الغنيّة المُنعّمة من حمل السلاح في شبابه، والانخراط في صفوف الثورة الجزائرية؟!
أو الدكتور “حنّا ميخائيل” الذي ترك الأمجاد الأكاديمية وراءه في الولايات المتحدة الأميركية، وانخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية على الأرض؟
وإذا كانت بعض هذه الأمثلة لا تروق للبعض، فماذا عن المتنبّي، والذي يُجمع المثقّفون العرب على أنّه أعظم شاعر على مرّ العصور، وأحد الآباء الأوائل للقوميّة العربية والروح العربية.. فلقد دفع المتنبّي حياته ثمناً لبيت شعر قاله، فهل بيان المثقفين العرب بعد ستة أشهر كاملة من الإبادة والتهجير هو بيان مَن هم على استعداد لدفع وتحمّل ولو “شكّة دبوس” في سبيل القضية التي يؤمنون بها، والموقف الذي يحاولون إقناع أنفسهم وإقناع الآخرين أنّهم يتخذونه؟!
بيان المثقّفين العرب هو على طريقة أغنية السيدة فيروز “تعا ولا تجي”، وينطبق عليه القول الشعبي “حكى بدري وانشرح صدري”، ولو عرضناه على أصغر طفل في غزّة لما وجده يرقى حتى لأن يقول لنا: “بلّوه واشربوا مَيتو (ماءه)”!
كاتب اردني