غسيل أدمغة.. –

من التقنيات المستخدمة في وسائل الإعلام لخلق رأي عام ورسم توجهات سياسية محددة تقنية «الخبر العاجل»، فالمتلقي بمجرد قراءته كلمتَي «خبر عاجل» سيتبادر إلى ذهنه أمران، الأول أنه خبر وبالتالي هو صحيح، وليس مجرد تحليل أو توقع، والثاني أنه عاجل، وفي حال كونه عاجلاً فإن الدماغ سيعمل بطريقة سريعة تبطئ وتلغي ميكانيزمات التفكير تحت وطأة العجلة واللهفة وربما الخوف والقلق أو الشعور بالنشوة.. وقبل أن يبدأ بالتفكير والتحليل يحيل المذيع المتلقي إلى المراسل الميداني، والذي بدوره سيوجه له أسئلة محددة سلفاً، وسيتلقى منه الإجابات المتوقعة، وهنا ستترسخ المعلومة والتحليل في عقل المتلقي.

ثم تستضيف القناة «المحلل الإستراتيجي» الذي سيؤكد المحتوى الذي أرادته، والذي يتماشى مع توجهاتها وأجنداتها، وفي هذه الحالة تكون المعلومة قد استقرت في ذهن المتلقي لتصبح القاعدة الارتكازية والمعيار المعتمد لإطلاق الأحكام، ودائماً المعلومة الأولى هي وحدها القادرة على هذا الفعل، وبعد ذلك إذا سمع المتلقي تحليلاً مغايراً سيرفضه، وسيعتبره غير صحيح، لأنه تنافى مع المعلومة الأولى. 
قد يكون الخبر صحيحاً، وهو غالباً صحيح، لكن السر في طريقة صياغة الخبر، والمصطلحات المستخدمة، والأولويات التي تريدها القناة الإخبارية، والأخطر: الأخبار التي لم تُذع، ولم تكن من ضمن الأولويات، والتي ستصبح في ذهن المتلقي غير صحيحة، أو غير مهمة. وتسمى هذه «الرسائل الضمنية».
فمثلاً، تردد النشرات الإخبارية الخبر التالي: «القصف الإسرائيلي يستهدف الضاحية الجنوبية»، أو «قصفت إسرائيل مواقع لحزب الله»، من ناحية واقعية الخبر صحيح، ولكن مع مصطلح الضاحية الجنوبية سيتخيل المتلقي في عقله الباطن أن الهدف مناطق الشيعة، أو قواعد الحزب.. وغاب عنه أن المستهدف بيروت ولبنان والشعب اللبناني ومصيره ومستقبله، وينشغل المتلقي بالحديث عن الشيعة والسنة، وأخطاء «حزب الله» أو بطولاته، ودور إيران المختلف عليه. ويتجاهل الموضوع الرئيس وهو الاعتداء على لبنان، وجرائم إسرائيل وانتهاكها القانون الدولي. 
ومثال آخر: مع أن إسرائيل تشن عدواناً سافراً على لبنان، إلا أن صورتها في الإعلام ظهرت خلاف ذلك؛ فبعد ضربة «البيجر» الغادرة والتي طالت مدنيين، انشغل الإعلام بتقديم نظريات تشرح وتحلل كيف فعلت ذلك، مع إظهارها في صورة المتفوق تكنولوجيا.. ثم أتت ضربات كتيبة الرضوان واغتيال قادتها، وأيضاً انشغل الإعلام بقصة الاختراقات الأمنية وقدرات إسرائيل الخارقة في التجسس، وبعد اغتيال السيد حسن نصر الله، انشغل الإعلام والمحللون بمقولات بيع إيران لـ»حزب الله»، والتخلي عنه.. والآن مع الاجتياح البري، وقصف منازل ومنشآت مدنية في بيروت والبقاع والجنوب، ما زال تركيز الإعلام على قدرات إسرائيل العسكرية وتفوقها التكنولوجي والاستخباراتي.. دون حديث عن جرائمها في الاعتداء على دولة ذات سيادة، وعلى شعب كامل، والتسبب بنزوح مليون مدني وتشريدهم من بيوتهم، وقتل أزيد من ألفَي إنسان حتى اللحظة.
وبدلاً من ظهور إسرائيل بصورة الدولة المعتدية والمجرمة والمارقة، ظهرت بصورة الدولة المتفوقة تكنولوجياً.. وكأنَّ تفوقها التكنولوجي يبرر لها قتل المدنيين.. غابت جرائم قتل المدنيين وتهجيرهم وبرزت تصريحات القادة الإسرائيليين التي تزعم أنها تحارب إرهاب «حزب الله» فقط، وأنها تدافع عن نفسها. 
لا ننكر أن إسرائيل متفوقة تكنولوجياً واستخباراتياً، لكن يجب ألا ننخدع بالدعاية المضللة، وبالمبالغة والتهويل، فمثلاً عشرات أجهزة المخابرات حول العالم لديها قدرات اختراق وتلغيم أجهزة الاتصال لكن إسرائيل وحدها من تجرأ على ارتكاب هذه الجريمة، وكل ما تفعله وما تمتلكه إسرائيل لا يزيد بشيء عما تمتلكه وتمارسه المافيات وعصابات الإتجار بالبشر، وعصابات المخدرات، والهاكرز، ورواد «الدارك ويب».. الفرق أن تلك المجموعات معروفة كعصابات مجرمة، أما إسرائيل والتي تمارس ما هو أفظع من ذلك فما زال الإعلام يكتفي بإبراز تفوقها التكنولوجي. 
ومن أخطر التقنيات المتبعة استضافة المتحدثين الإسرائيليين، والناطق باسم الجيش، والمؤتمرات الصحافية لنتنياهو وغيره، واستعراض تصريحاتهم التي تبرر جرائمهم، وتشرح وجهة نظرهم، وتزعم أن إسرائيل تدافع عن شعبها بشجاعة؛ وتدافع عن الدولة اليهودية «الصغيرة والمهددة» من «محيط إرهابي داعشي».. وبالتالي تقريب المشاهد العربي من إسرائيل، وجعله يتفهم تصرفاتها، وستكون النتائج مدمرة حتى لو أثرت في 10% من المشاهدين.
وقد تحدّث الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي عن إستراتيجية الإلهاء المستخدمة في وسائل الإعلام، ووصفها كـأحد أهم أدوات السيطرة على المجتمعات، وقال: إن العنصر الأساسي للسيطرة الاجتماعية هو إستراتيجية الإلهاء، وهي تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا والتغيرات المهمة من خلال تقنية الإغراق وغمر الفضاء الإعلامي بالأخبار الثانوية وغير المهمة لإلهاء المتلقين بها، والتغطية على الأخبار المهمة والمصيرية والقضايا التي تقلق النخب السياسية والاقتصادية، أي حجب الاهتمام العام بتلك القضايا الحقيقية وتوجيه انتباه الرأي العام بعيداً عنها، وجذبه إلى مسائل ليس لها أهمية، لتبقي الجمهور مشغولاً بها، دون أن يكون لديه وقت للتفكير.
فمثلاً بدلاً من الاهتمام بقضية فلسطين ولبنان والحرب العدوانية ضدهما، انشغل الرأي العام بقضايا تافهة؛ مثل: «هل يجوز الترحم على حسن نصر الله أم لا؟»، «هل صواريخ إيران حقيقيه أم مسرحية؟»، مع تذكير بممارسات ومواقف «حزب الله» في سورية ولبنان في العقود السابقة، وكأن الوقت مناسب لتصفية الحسابات السياسية والأيديولوجية والثارات التاريخية بين السُنّة والشيعة. 
ومثال آخر: في خضم الأخبار العاجلة والنقل المباشر غير الواعي للأحداث وللقصف الجوي ينسى المتلقي أحياناً أن جحيم الطائرات والصواريخ يصب حممه على شعب أعزل ومدنيين أبرياء، وأنَّ أشلاءهم هي التي تُشوى في هذا الجحيم، سواء في غزة أو الضفة أو في لبنان، وينتاب جمهور المتفرجين شعور وكأنَّ القصف مجرد ألعاب نارية. أو يتم تصوير هذا الجحيم بأن المستهدف هو القيادي فلان، ويصير الاهتمام منصباً فقط على مصيره، مع تجاهل لعشرات ومئات الضحايا المدنيين.
الأمثلة كثيرة، فلو شاهدت «العربية» ستخرج بقناعة بأن «حزب الله» انكسر وانتهى.. وإذا انتقلت إلى «الجزيرة» ستخرج بقناعة بأن «حماس» على وشك القضاء على جيش الاحتلال وإلحاق الهزيمة التاريخية بإسرائيل.. وهنا ستُصاب بالحيرة والضياع. ما سبق يفسر لماذا ظهر تفاعل الجماهير العربية مع كل ما جرى ويجري بهذه الصورة الباهتة والضعيفة وغير المجدية. 
مرة ثانية أعيد: في هذه الحرب العدوانية تعرّض العقل العربي لأكبر حملة تضليل ممنهجة وأخطر عملية غسيل دماغ في تاريخ الإعلام، منذ عصر قرع الطبول والحمام الزاجل، وحتى عصر البلوتوث والذكاء الاصطناعي. وقد لعبت الفضائيات العربية كلها الدور المطلوب منها بأبشع وأذكى وأخبث صورة ممكنة.