غـــزة الحــزينـــة…!!! أكرم عطا الله
2022 Jul,29
مع كل حدث يحتار المرء أحياناً حين يتأمل كل هذا الحزن المنتشر في تلك البقعة الصغيرة في العالم، والتي شاء قدرها أن تبقى حاملة كل هذا الهم على أكتافها إلى يوم الدين وسر الحيرة في البحث عن إجابة للسؤال الدائم عند كل حادثة: هل يتحمل الناس في غزة جزءا من مسؤولية ما يحدث أم أن الظروف هي المسؤولة وأنهم مجرد ضحايا لها ؟
الحقيقة أن التاريخ الطويل على هذه الأرض صنع مناخاته وثقافاته وسيكولوجية البشر التي أصبحت استجابة طبيعية لواقع أصبح العامل المركزي في تحديد السلوك.
وهنا يمكن القول إن الغزيين هم ضحايا استدرجهم هذا التاريخ إلى أسوأ مساحاته وأصبح الأمر دائرة متكاملة تعيد إنتاج نفسها بما يتلاءم مع واقع حدد لهم سلوكهم، ولم يترك لهم خيارات عندما أنتج تجربته في معمل شديد القسوة وشديد الحرارة.
غزة فقيرة وقد طال بؤسها حداً لا يتحمله أي شعب وقد تجاوز الأمر ما يمكن فهمه في علوم السياسة.
كيف يمكن لشعب أن يختنق بهذا الشكل ويموت ببطء وبنواح خافت، وقد تكثفت الأزمة قبل خمسة عشر عاماً حين اقتتل أبناء تلك البقعة على السلطة وتلك كانت واحدة من السخريات المؤلمة، فهي المنطقة فقيرة الموارد وقد أهداها القدر سلطة كانت وحدها هي المنقذ لأبنائها بالوظائف والرواتب. وهنا السؤال: هل استكثر أبناء غزة على أنفسهم تلك السلطة ليقتتلوا عليها ويطردوها من غزة لتصبح هذه المدينة يتيمة تناشد من بعيد ولا مجيب؟
قبل أيام فرضت حركة حماس رسوماً جديدة على بضائع تدخل القطاع، وتلك عادتها كلما اشتكت من شح المال، ولهذا السلوك تاريخ منذ أن قال عضو مجلس تشريعي عن الحركة عندما رفعت ضريبة ذات مرة وسموها آنذاك تعلية وفي ظل شكوى التجار قال لهم: «أنتم لا تخسرون شيئاً ارفعوا السعر على المواطن وهو من يدفع».
وتلك نظرية وسلوك حكم اعتاد عليه الغزيون الذين ساقهم حظهم لحكم حركة حماس التي تجهل طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الضريبة والخدمات، بين الحقوق والواجبات الملقاة على الحكومة، ولا تعرف أن الضريبة تؤخذ مقابل خدمات وفرص عمل ومعابر وكل شيء وإلا فحينها عندما تختل العلاقة تصبح جباية بلا خدمات بصرف النظر عن سبب عدم القدرة، وتكون حينها تعدياً على المواطن وتفقد الحكم مبرر وجوده بتلك التبادلية وتضعه أمام اتهام.
وبالمقابل لماذا ثار الغزيون قبل أيام على فيديو تم تصويره في أحد منتجعات غزة لعائلات مصطافة وقد اشتعلت ثورة السوشيال ميديا رفضاً لما ظهر من اختلاط كان الأمر أشبه بالزلزال.
لم يقتصر الأمر على حركة حماس وكوادرها الذين أظهروا هذا القدر من الداعشية مطالبين حكومتهم باتخاذ أقصى التدابير للحفاظ على «شرف غزة» باعتبار كل هذا الفقر والألم لم يمس شرف غزة.
لديهم مفهوم خاص للشرف، متناسين ما سببته مغامرتهم قبل عقد ونصف العقد بكل هذا الخراب الذي لم نستطع الخروج منه.
وإذا كانت داعشية حماس التي عبر عنها أكثر من قيادي هي مسألة طبيعية في ظل التربية الانغلاقية فإن اللافت هو انضمام الشعب لنفس الثقافة والمختلفة عن ثقافة الشعب الفلسطيني الذي صنف عبر التاريخ كشعب زراعي كانت تساهم المرأة والرجل في الحصاد والفلاحة والأفراح والتي جسدها الفنان الفلسطيني فتحي غبن في رسمته الدبكة الشعبية التي يمسك الرجل بيد المرأة، هذا تاريخنا وتلك ثقافتنا وهي مختلفة عن الثقافة التي تقلدها حركة الإخوان وحماس.
الإغلاق يتسبب في عزل الشعوب عن العالم ويعمل على تبكيت العقول وتحجرها وتأخرها.
وهذا ما يفسر الفارق بين شعوب عربية منفتحة في عواصم منفتحة مثل القاهرة وبيروت في الستينيات والسبعينيات كشعوب مرنة قياساً بالشعب الليبي الذي أغلق عليه معمر القذافي ومنع تدريس اللغة الانجليزية وتعرض لحصار عشر سنوات، وهذا يفسر لماذا كان المغول أشد شراسة باعتبار منغوليا تقع محاصرة بين مجموعة جبال، وهذا ما يفسر أيضاً القسوة الأميركية قياساً بأوروبا باعتبار أن أميركا معزولة بين محيطين باتت تستسهل قرار الحرب.
لقد بات واضحاً أن الإغلاق الطويل لعقود لغزة أثر على سيكولوجية البشر وجعلهم أكثر تشدداً.
فقد أغلقت غزة منذ خمسة وخمسين عاماً بعد حرب 67 وانعزلت عن عالمها الخارجي وخاصة مصر. ففي عصر التواصل مع القاهرة كانت أكثر انفتاحاً وأقل تشدداً وقد حددت إسرائيل من يخرج ومن يدخل بحدود واشتراطات ثم جاءت السلطة ليزداد انعزالها عندما أغلقت معبر إيرز وبعدها تصل ذروة إغلاقها بعزلها تماما عن العالم الخارجي بعد الصراع بين أبنائها وطرد السلطة وسيطرة حركة حماس لتقدم لإسرائيل مبرراً لكل هذا التنكيل الذي يحدث وواضح أنه سيستمر في ظل معادلة تتحول إلى دائمة، لأن المصلحة الإسرائيلية تتطلب هذا الانفصال بين القطاع والضفة.
ومزيد من الإغلاق يؤدي للانغلاق والتشدد ومزيد من الفقر والتسول.
وما ينتجه هذا الواقع من أمراض اجتماعية تجد التعبير عن ذاتها بهجوم مجتمع كامل على عائلة تبحث عن كسرة حياة وسط هذا الموت المخيم، وكل هذا يحدث وسط اندهاش العالم من حجم الانغلاق والتشدد الذي أصبح يمارسه سكان غزة بحق أنفسهم وضد أنفسهم وحتى اندهاش تجمعات الشعب الفلسطيني في الضفة ومناطق الـ 48 وحتى ممن هم في الدول العربية، أما فلسطينيو المهجر فالدهشة لديهم أكثر مما تفعله هذا المنطقة بنفسها وكأن لا يكفيها ما يفعله الجميع بها.
في الطريق إلى غزة تأخذ الرحلة أياماً بين القاهرة ورفح وسط هذا الحر القاتل. كيف ولماذا؟ لا أحد يسأل، وتنغلق مستشفيات الضفة أمام الغزيين وينكل الإسرائيلي بتصاريح المرضى، وفي الأردن إذا ما أراد السفر يطلبون عدم ممانعة للمرور، وانقطاع كهرباء وحروب لا تعرف بطالتها غزة حيث تدمر كل شيء وضرائب وغلاء أسعار وانعدام فرص العمل وفوق كل هذا يستكثر الغزيون على أنفسهم لحظة فرح؟
هم ضحايا التاريخ الذي لا يرحم وضحايا صراع الإخوة الألداء وضحايا تجاذبات الإقليم ونقمة السلطة على حكامها وضحايا مغامرة هؤلاء الحكام، هم ضحايا كل شيء ولكن أيضاً ضحايا أنفسهم.