تطوير تكتيكات إعلامية وتوثيق هجمات المقاومة الفلسطينية على جنود الاحتلال بالصوت والصورة كان من أكثر التحولات الاسترتيجية التي عملت المقاومة على تطويرها وتنفيذها خلال الحرب، والتي لا تقل شأنا عن التصنيع المحلي للأسلحة والعتاد العسكري. وتعتبر عملية التوثيق هذه دلالة وإثبات واضح لنصر المقاومة ويعتبر كذلك سلاح ضغط ضد الجانب العسكري والجانب السياسي الإسرائيلي، كما أن هذه الفيديوهات عملت على حصد الدعم العربي والإسلامي للمقاومة الفسلطينية حيث تظهر بسالة هؤلاء المقاومين في وجه العدو المحتل.
من أكثر الفضائح والهزائم التي تعرضت لها إسرائيل خلال الأيام الماضية كان فشلها في تحرير أي محتجز لدى القسام، لم تنجح إسرائيل بإطلاق سراح أي أحد بل على العكس فقد قتلت ثلاثة من أسراها وهم يرفعون أعلام بيضاء تدل على الاستسلام، يبدو بأن المقاومة وثقت هذه العملية بالصوت والصورة وهذا بالضبط ما دفع الحكومة الإسرائيلية على الإعلان عن أن عملية القتل تمت عن طريق الخطأ.
على الرغم من أن الخلاف بين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ونتنياهو يعود إلى ما قبل الحرب على غزة وإلى ما قبل عملية طوفان الأقصى، إلا أن عملية قتل الجيش الإسرائيلي لأسراهم وتوثيق المقاومة لهذه العمليات، ساهمت في تعميق هذا الخلاف والاتجاه نحو المواجهة بين الجبهة السياسية والجبهة العسكرية. كل من هؤلاء الطرفين يوجه الاتهام إلى الأخر بالفشل وتحمل المسؤولية عن خسارة الحرب. حيث ينظر الجيش إلى هذه الحرب بعد أن تأكدت له الهزيمة بأنها تأتي في سياق جهود نتنياهو للبقاء في السلطة. وقد حللت الصحيفة الفرنسية “لوفيغارو” هدف نتنياهو من هذه الحرب إذ أشارت إلى أن نتنياهو يريد حرب طويلة الآمد لتحقيق ما يسميه “النصر الكامل” وذلك لإن الحرب الطويلة توفر له بقاء أطول في السلطة بالإضافة إلى تأجيل عملية النظر في عمليات الفساد المطروحة أمام القضاء الإسرائيلي والتي من المتوقع أن تقضي على مستقبله السياسي بشكل كامل.
بينما يؤيد غالانت وزير الدفاع الإسرائيلي مقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يسميه “المرحلة الثالثة للحرب”، وتتثمل هذه المرحلة في انتشار كبير حول غزة، مع عدد أقل من القوات، ومهمات هجومية أخف وأكثر استهدافا، تشمل مجموعات صغيرة ومحترفة للغاية من الجنود، لن يكون لها أي علاقة بوقف إطلاق النار.
وتأتي قناعة الجيش بهذا الخيار استناداً إلى الخسائر الفادحة التي يتعرضون لها في قطاع غزة خصوصاً بأنّ هناك اعتراف إسرائيلي صريح بأن القتال مستمر حتى في تلك المناطق التي أعلنت إسرائيل السيطرة عليها بسبب تكتيكات المقاومة القائمة على حرب العصابات حيث تشن حماس حرب عصابات على القوات الإسرائيلية عبر الأسلحة الصغيرة وصواريخ “آر بي جي” والألغام والقنابل محلية الصنع مثل الياسين 105. كما تعترف إسرائيل كذلك بأن شبكة الأنفاق (أو ما يُطلق عليه مترو غزة) لا تزال فعاّلة وتوفر امدادات لوجستية للمقاومة. ويشير الجنرال “إسحق بريك” بأن تدمير هذه الشبكة المعقدة من الأنفاق تحتاج لسنوات وستكلف إسرائيل ثمناً باهظا في الأرواح والأموال.
ولم يقتصر تأثير فيديوهات المقاومة ونصرها العسكري ضمن الحدود الفلسطينية بل تعداها إلى الشعوب العربية والمسلمة حول العالم، حيث يظهر استطلاع للرأي أجراه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط في السعودية أن 91% من المشاركين يتفقون على أنه على الرغم من الدمار والحرب والخسائر في الأرواح، إلا أن هذه الحرب في غزة هي انتصار للفلسطينيين والعرب والمسلمين.
أما بالنسبة لدور العالم العربي الأوسع، فإن الجميع تقريبا (96%) يوافقون على الاقتراح القائل بأنه يجب على الدول العربية أن تقطع فورا جميع الاتصالات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية وأي اتصالات أخرى مع إسرائيل، احتجاجا على عملها العسكري في غزة. هذا الموقف الشعبي العربي يخالف ما تفعله الحكومات خلف الكواليس، حيث يشير الصحفي الأمريكي-الإسرائيلي “باراك رافيد بأن الحكومة السعودية تطلب القضاء على حماس في السر وتطالب بالهدنة ووقف إطلاق النار في العلن وذلك للاستهلاك المحلي، وإن كانت هذه مجرد رواية إلا أنه يبدو بأنّ نتنياهو يسعى إلى تطبيع العلاقات بعد انتهاء الحرب. على أي حال، لقد بلغ التأييد الشعبي لحركات المقاومة الفلسطينية حداً أظهر فيه استطلاع الرأي السابق بأن 16% فقط من السعوديين يرى أن حماس يجب أن تتوقف عن الدعوة إلى تدمير إسرائيل، وقبول حل الدولتين الدائم للصراع على أساس حدود 1967. ويمكن بالتالي تعميم هذه النتائج على الشعوب العربية والمسلمة وحتى الشعوب الغربية التي تتظاهر بشكل يومي دعماً للقضية الفلسطينية وحقوقها المشروعة والدعوات المتكررة من قبل هذه الشعوب لإنهاء المجزرة والإبادة الجماعية بحق شعب قطاع غزة.
إذا تعتبر فيديوهات المقاومة الفلسطينية لساحة المعركة في قطاع غزة والتي تنشرها بشكل يومي أفلاماً وثائقية توثق قدرة هذه المقاومة المحلية على مواجهة أعتى الجيوش المجهزة بالعتاد والسلاح وتظهر قدرة هذه المقاومة على تعزيز الخلافات بين المؤسسة العسكرية والنظام السياسي في إسرائيل، كما تؤكد هذه التوثيقات بأن الشعوب تتعاطف مع المقاومين فقط وليس المتخاذلين.
كاتبة وباحثة عراقية
@fatimaaljubour تويتر