مرّت قناة “الجزيرة” القطرية بمراحل مختلفة شهدت خلالها فترات من “المدّ” الصاروخي، وتحوّلت بقدرة “قادر” معلوم، وهو المال القطري إلى “أيقونة” إعلامية، وإلى شبكة عالمية أَخطبوطية لم تشهد بلدان العالم الثالث مثيلاً لها في كامل تاريخها الإعلامي كلّه.
الأموال التي خُصّصت لـ”الجزيرة” اعتبرت بمقاييس تلك الأيّام التي تأسّست إبّانها ما يُضاهي موازنات دول فقيرة، أو شديدة الفقر.
والطريقة التي جرى بها تأسيس هذه “المحطّة”، إن كان على مستوى الإعداد والتمهيد، أو على مستوى طبيعة البرامج ومحتواها، أو حتى على مستوى تكنولوجيا العلوم والفنون الإعلامية كان مُبهراً، وهو ما مكّن هذه “المحطّة” من إحداث “صدمة” لدى المتلقّي، وأحدث فَرقاً نوعياً في متابعتها، وفي “اللهاث” أحياناً كثيرة خلف أخبارها وبرامجها.
“تعطّش” الجمهور العربي لإعلام مختلف، وتوقه لسماع ومشاهدة “آراء” مختلفة، و”حوارات” علنية ساهم إلى حدٍّ كبير في سرعة “انتشار” المحطّة، وفي النفاذ ــ الذي اكتشفنا لاحقاً أنّه كان بفعل فاعل ــ إلى تلابيب الوعي، أو بالأحرى إلى إعادة تشكيل الوعي لدى هذا الجمهور الواسع.
تزامن تأسيس “الجزيرة” مع بدايات مفاعيل الثورة العلمية وتكنولوجيا المعرفة على المستوى الكوني، تماماً كما تزامن مع تحوّلات دراماتيكية دولياً وإقليمياً على حدٍّ سواء.
كانت “الجزيرة” هي المحطّة الوحيدة في العالم التي غطّت الحرب الأميركية على أفغانستان، وأمّنت “إيصال صوت القاعدة” وزعيمها إلى العالم “الإسلامي”، وإلى العالم العربي، ومن ثمّ “انفردت” بتغطيات استثنائية من “عُقر دار” المحطّات الأميركية، وتحوّلت إلى هاجس إعلامي لكلّ محطّة، ولكلّ وكالة أنباء، وخصوصاً بعد (11 سبتمبر/أيلول).
خطّ سير “الجزيرة” كان موازياً تماماً لمرحلة المدّ الإسلاموي، بل ويمكن القول باطمئنان إنّ المدّ الإسلاموي كان يحتاج إلى محطّةٍ كـ “الجزيرة”، وكانت “الجزيرة” تحتاج إلى المدّ الإسلاموي، في احتياجٍ مشترك يثير الكثير من التساؤلات، أكثر مما يمكن أن يُعزى إلى عوامل المصادفات والمفارقات.
ثمّ وصلنا إلى “الربيع العربي”، وإلى “البلاء الحسن” الذي أبلته هذه المحطّة في محاولة التدمير المنظّم للمجتمعات العربية الذي ابتُليت به المنطقة، بعد أن تمّ امتطاء حاجة الناس في المنطقة إلى الخلاص من أنظمة الفساد والاستبداد، ومنظومات العجز والفشل والإفقار التي كان تتسيّد في كلّ الإقليم، وركوب موجة توق الناس للحرية والديمقراطية لكي يتنصّب في النهاية كلّ ما هبّ ودبّ من موجة الإسلاموية الجديدة على رأس “الثورات الربيعية” التي نعرف الآن جميعاً إلى أين انتهت، وبأيّ ثمن، وبأي آفاق مستقبلية!
وفي المعلومات، يشير بعض المصادر من خارج نطاق “الذهنية الكيدية” والخلافات والتناقضات والعداءات وإعلام الافتراء والأكاذيب والدعايات إلى أن تأسيس “الجزيرة” كان بمثابة صفقة وتقاسم وظيفي، شاركت به المخابرات المركزية الأميركية وجماعات من “الإخوان المسلمين”، تخلّلتها مرحلة انتقالية ــ أي مرحلة التأسيس ــ كانت تمثّل حالة غير مُنظمة بعد، إلى أن تمّ تحديد التخوم والمفاصل والفواصل فيما بينها، وتمّ ضبط كل إيقاع المحطّة تحت إشراف رسمي قطري بشخص معروف وتولّى مناصب رفيعة للغاية، عُرف بصراحته، وبَوْحه الذي لا يخشى من خلاله لومة “لائم”! وتمّ رسمياً تقاسم البرامج وساعات البثّ.
تراجع “مدّ” “الجزيرة” كثيراً بعد المجازر الإعلامية التي ارتكبتها هذه المحطّة ضد شعوب الأمّة وبلدانها، وقفزت في الهواء عدّة مرّات متتالية كادت تودي بها، وخصوصاً في مرحلة الخلافات الحادّة مع “العربية السعودية ومصر وبعض بلدان مجلس التعاون الخليجي”، وبلغ بها الشطط أعلى مراحله بعدما أطاح الجيش المصري بنظام “الإخوان المسلمين”.
شنّت محطّة “الجزيرة” حروباً شعواء على كلّ وطني وقومي في الإقليم العربي، وعهّرت العروبة والوطنية، وحوّلت كلّ من هو غير إسلاموي إلى مطارد إعلامي خدمة للمؤسسين الأوائل، وأصبحت تفتّش لها عن غطاءٍ “ثورجي” للتستّر به على جرائمها الإعلامية بحقّ أمّةٍ بكاملها، وكان نصيب فلسطين من هذه الجرائم كبيراً بحجم وكبر وتأثير “الآباء المؤسّسين”، وكبيراً وهائلاً بحجم الوطنية الفلسطينية، وهائلاً بحجم الانقلاب الذي دعمته بقوّة من أجل تشتيت شمل الشعب الفلسطيني.
طبعاً الحديث هنا يدور حول الإستراتيجيات الإعلامية، والمخطّطات، وليس على “النقل والتقارير الصحافية” لأنّ هذه المسألة بالذات بقيت ــ والحمد لله حتى الآن ــ في أيدي صحافيين فلسطينيين ينتمون لوطنهم وقضيتهم، ولا ينتمون لدوائر صُنع الإستراتيجيات الإعلامية للمحطّة في مقرّ المحطّة، ويكفينا فخراً على هذا الصعيد الدور الذي لعبته أيقونة الإعلام، شهيدة نقل الأحداث من أرض المعارك، الزميلة الراحلة شيرين أبو عاقلة.
المُثير دائماً أنّ “الجزيرة” لا يهدأ لها بال قبل أن تجد لها مدخلاً مناسباً “للفتنة”، وقبل أن تجد ضالّتها في تحويل كلّ حبّة إلى قبّة أكبر من “الصخرة المشرّفة” وأقدس وأهمّ منها أحياناً.
في الأحداث التي تقع في كلّ بلدان الإقليم، وفي العالم، أيضاً، وحيث توجب الأمانة والمهنية الصحافية نقل الحقائق والوقائع بصورةٍ “غير مغرضة” على الأقلّ، قلّما تتمكّن “الجزيرة” من الالتزام، ولا حتى الشكلي بهذه الأسس والقواعد، ويندر أن يفلت من تحت يد مركز القرار فيها شاردة أو واردة.
فعلى سبيل المثال، فإنّ تغطية الأحداث في أوكرانيا تبدو أحياناً وكأنّ “الجزيرة” ليست سوى أحد أبواق الإدارة الأميركية، بل وأحد أبواق الدعاية الأوكرانية الرخيصة، وأحياناً يبدو لي الأمر وكأنّ المدفعية الروسية تدكّ العاصمة القطرية نفسها!
تعمّدتُ شخصياً على مدار زمني طويل متابعة “الجزيرة” لقضية “سد النهضة”، ولم أجد في طيّات تغطيتها غير “التشفّي” بعطش الشعب المصري مستقبلاً، وهي سعيدة أيّما سعادة بهذا العطش إن تمّ، وكان لها ما تتمنّاه!
في تغطية الأحداث من ليبيا فحدّث ولا حرج، حيث إنّ “الإخوان” هناك هم حُماة الديار ضدّ الأشرار، و”الميليشيات الإخوانية” هناك هم أشراف ليبيا، وباقي القوى ليسوا سوى مجموعة من “الأوغاد”، بالرغم من أنّ “مجموعات الإخوان” تغتصب السلطة والقانون، وتتحالف مع “الغرب” الذي دمّر ليبيا عن بَكرة أبيها، ومستعدّة للتحالف مع كلّ شياطين الأرض لبقاء هذه “الميليشيات” مُمسكة برقاب الشعب الليبي.
وحتى المصالحة الإيرانية السعودية، والمصالحة العربية السورية لا ترى فيها “الجزيرة” سوى “مؤامرة” وخيانة “للثورة” السورية، ودعم للأسد، الذي كان قبل “الربيع السوري” بأيّام فقط حليفاً لقطر، وكان “حزب الله” نفسه مُدلّلاً عند القيادة القطرية ومُقدّساً عند الأبواق القطرية الجديدة والمستجدّة!
ولا يختلف الأمر عندما نتابع تغطية “الجزيرة” للأحداث في السودان أو تونس أو اليمن.
أينما وجدت “الإخوان”، ووجدت الإسلامويين، فـ”الجزيرة” في ظهرهم، وتزيّن أعمالهم، وتفبرك لهم، وتقيم لهم “الولائم الإعلامية” حتى يُصابوا بالتُخمة من شدّة “الدسم” الإعلامي.
قصّة “الجزيرة” هي حالة نادرة من التضليل الحذق، والمهني المحترف في فنون إثارة الفتن، وهذا الاعتراف لها هو بمثابة كلمة حق يجب أن تُقال.
في العدوان الأخير على مخيّم البطولة في جنين وجدت “الجزيرة” ما كانت تجهد للبحث عنه، فقد “فرفكت” أيديها فرحاً وسعادة بأن البعض تفوّه ضدّ بعض قيادات “فتح”، أو أنّ السلطة الوطنية اعتقلت لا أعرف من، وأنّ “حماس” و”الجهاد” لن تحضرا اجتماع الأمناء العامّين لهذه الأسباب تحديداً!
حاول الصديق والزميل وليد العمري أن يغطّي المسألة بحجمها، وأن يتجنّب “التركيز عليها باعتبارها مسألة انتهت هناك، ولكن دون جدوى، ودون أن تتراجع “الجزيرة” حتى عندما تمّ إجلاء الحدث وحجمه الصغير.
كادت “الجزيرة” تُجنّ لأنّ فرصة الفتنة كادت تفلت من بين أصابعها، وأصحاب القرار في المحطّة حاولوا تلقين معظم المذيعين، وكانوا يضعون الكلام في أفواههم علّها ــ أي “الجزيرة” ــ تصل إلى ضالّتها بأن تنفجر فتنة كبيرة بين المقاتلين من كلّ الفصائل، أو بين أهالي المخيّم والقيادات الرسمية، أو بين الأهالي و”كتائب شهداء الأقصى”، لكي يُقال فيما بعد إن “الكتائب” لم تكن في الميدان، ولم تكن في المعركة، علماً أنّ أهالي المخيّم و”الكتائب” قد فوّتوا الفرصة على “الجزيرة” في هذه المرّة، أيضاً.
وهذا كلّه من سوء طالع “المحطّة” في هذه المرحلة.