أكد العضو السابق في هيئة كبار العلماء الدكتور قيس المبارك؛ أن الأصل في أصحاب المهن الشاقَّة، الصيام، وإذا صامَ أحدهم، فأَدَّاهُ صيامُه إلى تعبٍ شديد، فخاف على نفسه ضرراً شديداً، إمّا بحدوث عِلَّةٍ، كتَلَفِ حاسَّةٍ مِن حواسِّه، أو منفعة مِن منافعه، كالكبد أو الكُلْيَة، أو يُؤدِّي إلى الهلاك، فيجب عليه أنْ يُبادر بالفطر، ولا يُشتَرَط لإباحة فِطْرِه حصولُ الضَّرر الشديد، فالخوفُ مِن نزول الضَّرر بقول طبيب عارف كافٍ في إباحة الفطر له،
وعدّ المقيمين في البلاد التي يطول فيها النهار، في حُكْمَ أصحاب المهن الشاقَّة، التي يَقْدِرُ على صيامها أكثر الناس، ويعجز البعض الآخر، فكثيرٌ منهم يُـمْكنه أنْ يصوم، وغايةُ الأمر أنه يجد مشقَّةً في الصيام لطول النهار، فهؤلاء يجب عليهم أن يصوموا، ويُلاحَظ أنَّه إذا اشتدَّ بهم التَّعبُ أثناء النهار وخافوا حصول الضَّرر أو الهلاك، جاز لهم الفطر، وعليهم قضاء ما أفطروا من الأيام.
وعن تبييت نية الفطر، إنْ خاف حدوث شدَّة الأذى أوالهلاك، وإذا اشتدَّ به التَّعبُ أفطر، أوضح أن للفقهاء في هذه المسألة قولان:
الأول أنَّه يجب عليه أنْ يَنْوي الصيام، لأنَّه شهدَ الصوم وهو صحيحُ البدن، ولأنَّ سبب الفطر، لم يَقع بعد، فوَجب عليه أنْ يَشرعَ في الصيام، ثمَّ إذا حصلَ له أثناء الصيام تعبٌ شديد، فخاف حصول ضررٍ شديد أو هلاك، فعليه أنْ يقطع صيام والثاني: وهو قولٌ في مذهب الإمام مالك، (وأما الجهدُ الشديد فَيُبيحُ الفطرَ للمريض، قيل والصحيح أيضا). وقال الشيخ محمد بن عَرَفَة الدسوقي: (وقيل يجوز له الفطر) واستناداً إلى هذا القول، فإنَّ صحيحَ البدن، إذا خاف حصولَ ضررٍ، جاز له تبييتُ الفطر مِن الليل، ويَقضي ما فاتَه بعد رمضان.
وأورد المبارك أمثلة الفقهاءُ للمضطر: منها الحصَّاد، فقد كَرِهوا لَهُ أنْ يَحصُد الزَّرْع في نهار رمضان، لئلا يُعرِّض نفسه للفطر، لكن إن اضطُرَّ للحَصَاد، بأنْ كان محتاجا إلى العمل، مِن أجل النفقة على مَن يَعُولُه مِن زوجةٍ وأولاد، فإذا أدَّاه العمل إلى تعبٍ شديدٍ فخشيَ على نفسه الضرر، فَلَهُ أن يُفطر، والمرأة المحتاجة للعمل، إذا أجّرت نفسها للرضاعة، وإنْ أدَّى الإرضاع إلى مشقَّة توجب الفطر، وغازلة الكتَّان في رمضان، وإنْ أدَّى الغزلُ إلى مشقَّةٍ توجب الفطر، ويَدخل في هذا المعنى أصحاب المهن الشَّاقَّة، التي تؤدِّي مزاولتها عادةً إلى حدوث شدَّة الأذى أو الهلاك، وصاحب المزرعة، الذي يَخرجَ للوقوف على مزرعته، لأنه ليس له بُدٌّ من رعايتها وتعهُّدها بالسَّقْي والحفظ والحراسة، فإنَّ تَرْكَه لها يؤدِّي إلى نقصانٍ للمحصول وربَّما يَتْلَف، وهذا إتلافٌ للمال، وقد نَهَى الشارع الحكيم عن إضاعة المال، فإنْ كان تعهُّدُه لها يُفضي به إلى ضررٍ شديد بصحَّته، وَجَبَ عليه أن يُفطر، لكن يُشترَط لإباحة الفِطْر له، أنْ يكون مضطراً للخروج لمزرعته، بحيث لا يَجد مَن يَنوبُ عنه في رعاية المزرعة، أو أنْ يجدَ أحداً يَنوبُ عنه، لكن ليس له مالٌ يزيد عن حاجته يمكنه أنْ يستأجر به مَن ينوب عنه.
ولفت إلى أنَّ بعض الناس يَغلب على ظنِّه بحكم ضَعْفِ بُنيَته، أو بحكم مشقَّة عَمَلِه أنَّ صيامه لهذه الساعات الطِّوال يُؤدِّي إلى الهلاك، فلا يصح أنْ نَشُقَّ عليه، ولا نُلزمُهُ بصيامِ معظم النهار، وإذا اشتدَّ به التَّعبُ في آخر النهار يُفطر، ويستمرُّ حالُه هكذا طيلة شهر رمضان، فهذه مشقةٌ عظيمة، مشيراً إلى أن الذي يظهر له أنَّ هذا التِّكرارَ، يُعدُّ شدَّةً معتبرةً في التخفيف، فقد ذكر الإمام شهابُ الدِّين القَرافيُّ أنه يُعتبر في التخفيف ما اشتدَّتْ مشقَّتُه، وإنْ بسبب التكرار، قال: وهو الظاهر من مذهب مالك.
وإن صادفوا أياماً ليس فيها عملٌ، كأيام العطلة أو أنْ يكون العمل فيها خفيفاً، فهذه الأيام إذا أَمْكنهم أن يصوموها، فيجب عليهم صيامها، لأنه لا يجوز لمسلمٍ أنْ يَترك صيام يومٍ مِن رمضان وهو قادرٌ على الصيام.
ويرى أنَّ الخوفَ المبيحَ للفطر ليس الخوف المتوهَّم، وإنما هو الخوفُ المستنِدُ إلى قولِ طبيبٍ ثقةٍ حاذق، ولا بأس من الأخذ بقول طبيبٍ غير مسلمٍ، إذا كان أعرفَ بالطِّبِّ، ولا يُشتَرَط في إباحة الفطر الاستناد على قول الطبيب، بل يَكفي الاستناد إلى العُرْف والعادة، مثل أنْ يكون قد حصلت للصائم تجربةٌ سابقة كادتْ أنْ تُوقِعَه في الهلاك، فيَجبُ عليه حينئذٍ أنْ يُفطر، ولا يجوز له إتمامُ صيامِه، لِأنَّ حِفظَ النَّفس واجبٌ، وفي صيامِه تعرُّضٌ للهلاك، والتعرُّض للهلاك محرَّمٌ، فقد قال الله تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، فإنْ لم يُفطر مَن خشيَ على نفسه الهلاكَ، فقد عصى اللهَ وخالف أَمْرَه.
موضحاً أن المرض المبيح للفطر ما يَحْصل بسببه مِن الوَهْن ما لا يحصل للصحيح، فمن كان مصاباً بالسُّكَّر أو الضغط أو غيرهما من الأمراض التي يُخاف أنْ يُؤدِّي الصيام معها إلى حصول جهدٍ ومشقَّة، أو يَخاف على نفسه أنْ يَزيدَه الصومُ ضَعفا، فيُباح له الفطر، وقد يُندَبُ له الفطرُ إنْ خاف أن يزيد مَرَضُه، أو يتأخَّر بُرْؤُه، وكذلك إن خشيَ حدوث مرضٍ آخر، فللمريض في جميع هذه الصُّوَر أنْ يفطر، وقد يَجب عليه الفطرُ إنْ خاف على نفسه ضرراً شديداً، مثل تَلَفِ حاسَّة مِن حواسِّه أو الهلاك، لأن حفظ النفوس واجبٌ، ثم يقضي الأيام التي أفطَرَها.
ويُلحق بالمريض ضعيف البُنْيَة، وإن كان صحيحاً، ومثلُه الشيخ الكبير، فلهما حُكم المريض، هذا تحصيل مذهب الإمام مالك رحمه الله.