كل احتمالات الحرب مفتوحة؟ –

 التصعيد الإسرائيلي الخطير، الأسبوع الماضي، ضد أهداف في لبنان، كتبت أن التصعيد وارد، ولكن تحت سقف الحرب الإقليمية. وبعد هذا التصعيد نستطيع التأكيد أن كل احتمالات الحرب باتت واردة، بما فيها الحرب المفتوحة والشاملة والإقليمية واستمرار حرب الإسناد مع تصعيد محسوب، ما لم يحدث ما هو غير متوقع حدوثه ويغير السيناريوهات المرجحة ويقدم عليها سيناريوهات أخرى، ولكن مع حرص حزب الله ومعه محور المقاومة على عدم الوقوع في الفخ الإسرائيلي بالانجرار إلى حرب مفتوحة شاملة في وقت مناسب لدولة الاحتلال، فحرب الاستنزاف تناسب محور المقاومة ولا تناسب حكومة اليمين المتطرف لذلك تسعى إلى تغيير سيناريوهات الحرب.

ما الذي يدفع إلى هذا الاستنتاج هو أن حكومة بنيامين نتنياهو تريد الحرب الشاملة مع استمرار حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، خصوصًا إذا لم تنفع حرب الترويع والصدمة والتقويض من الداخل، التي تعبر عن نفسها من خلال العمليات النوعية التي نفذتها من اغتيال صالح العاروري، مرورًا باغتيال فؤاد شكر، وعمليتي البيجر وأجهزة اللاسلكي، واغتيال إبراهيم عقيل ورفاقه، وانتهاء باستهداف مرابض الصواريخ بصورة مركزة، بهدف شل المقاومة وتأليب البيئة الداخلية اللبنانية بدءًا من أوساط الحزب والطائفة الشيعية وانتهاء بكل لبنان؛ للضغط على حزب الله لوقف حرب الإسناد لتجنيب لبنان دمارًا شبيهًا بما حصل في قطاع غزة.

من قام بعمليتي التفخيخ الجماعي اللتين استهدفتا الآلاف، واستهداف قائد الرضوان وصحبه بعد يوم واحد، التي ارتقى فيها عشرات الشهداء معظمهم من المدنيين، متجاوزًا الخط الأحمر باستهداف الضاحية الجنوبية مرة أخرى، يريد أو يضع في حسابه إمكانية عالية لتحول حرب الإسناد إلى حرب مفتوحة. ولو كان الأمر بيد نتنياهو وجنرالاته وحدهم لشنوا حربًا شاملة مباشرة بعد عمليتي البيجر وأجهزة الاتصال اللاسلكية، وأخذوا حزب الله على حين غرة وهو في حالة ارتباك كامل، ولكن هذا يشكل خروجًا عن المدى المسموح أميركيًا؛ إذ أعطت – كما يظهر من التحذير المستمر من الحرب الإقليمية – إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الضوء الأخضر لإسرائيل لحرب تحت مستوى الحرب الإقليمية، على أمل أن يعود مهجرو جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة إلى منازلهم كما صرح بايدن.

على الأرجح أن حكومة نتنياهو كانت تهدف ولا تزال إلى استدراج حزب الله للرد القوي المتناسب في وقت غير مناسب له، حتى تقوم بشن الحرب الشاملة ضده مع ضمان وقوف الإدارة الأميركية إلى جانب حليفتها المميزة جدًا، ولا سيما وهي مقيدة عشية الانتخابات الأميركية، جراء تأثير الحرب الشاملة على رفع الأسعار والتضخم، وتمكين بكين وموسكو من الاستفادة عبر التدخل ولو غير المباشر؛ ما يؤثر بشدة على فرص كامالا هاريس في الانتخابات، حتى تقوم بشن حرب شاملة ضده بحجة الدفاع عن النفس وهي مطمئنة أن واشنطن ستكون معها، وإن على مضض.

فإدارة بايدن كانت تفضل التوصل إلى صفقة تبادل وتهدئة على جبهة غزة تساعد على التوصل إلى تسوية على الجبهة اللبنانية .

إن ما حصل من تصعيد إسرائيلي إجرامي خطير يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، ومن ثم يوم الجمعة الماضية، يدل إما على اختراق كبير لدى حزب الله، أو تفوق تكنولوجي أكبر مما كان يعتقد، أو كلا الأمرين. لذا، قبل الاندفاع نحو الرد المتناسب، يجب معالجة الخلل وترتيب الصفوف مجددًا، وليس التعامل برد فعل عاطفي، والخضوع لمطالب الجمهور المؤيد للمقاومة بعيدًا عن الحسابات الإستراتيجية الباردة. فحزب الله تلقى ضربات قوية ودولة الاحتلال حققت مكاسب تكتيكية مهمة، ولكنها على أهميتها لم تغيّر البيئة الإستراتيجية، بدليل أن حرب الإسناد استمرت وتصاعدت وتغيرت قواعد الاشتباك، وبدأت مرحلة الحساب المفتوح، وأن مستوطني مستعمرات الشمال لم يعودوا إلى بيوتهم، ولن يعودوا وفق التزام حسن نصرالله إلا بوقف حرب الإبادة.

علينا أن نسجل أن إيران مثلها مثل الصين تتحلى بحكم الاختلال في موازين القوى وكون الكيان الإسرائيلي  جزءًا من المعسكر الاستعماري بمميزات صانع “السجاد العجمي”، الذي يمضي سنوات وسنوات في حياكة السجادة بفن وإتقان وخطوة خطوة بلا كلل، وفي ظل مهارة وذكاء بلد وشعب “مخترع لعبة الشطرنج” الذي يتحلى بالصبر الإستراتيجي، ودأب ومثابرة النملة التي تحاول وتحاول وتحاول حتى تحقق ما تريد. كما تعطي طهران الأولوية للحفاظ على برنامجها النووي، ووصوله إلى محطته الأخيرة بعد أن وصلت إلى عتبة التحول إلى دولة نووية، وتؤمّن بعد ذلك استمرارها .

لو، ولو تفتح عمل الشيطان، كما يقال، لم يقع جمال عبد الناصر في الفخ الإسرائيلي الهادف إلى جره للحرب في العام 1967 قبل أن يستكمل استعداده، كما دلت محاضر اجتماعات هيئة أركان جيش الاحتلال المنشورة لاحقًا، التي أصرّت وضغطت على حكومة ليفي أشكول لشن الحرب متذرعة بالإجراءات التي اتخذها عبد الناصر، ولما وقعت هزيمة حزيران المخزية، ولكان مصير المنطقة برمته مختلفًا؛ لأن هزيمة حزيران هي الحدث المؤسس للانهيار العربي، الذي وصل بالعرب مرحلة وراء مرحلة إلى وضعهم الحالي من دون مشروع عربي واحد ولا قيادة عربية واحدة ولا دولة قائدة ولا قائد واحد .

هل ما سبق لا يحمل حزب الله أي مسؤولية؟ لا، طبعًا، فهو يتحمل مسؤولية عدم التحسب لتداعيات التفوق الإسرائيلي الذي كان يعرفه، وكان يجب أن يكون أكثر حذرًا بشأن رفع سقف التوقعات، ويحد بذلك من مستوى التهديدات والوعود.

يكفي حزب الله أنه استمرّ في حرب الإسناد حتى الآن، على الرغم من الثمن الغالي الذي قدمه ولا يزال مستعدًا لتقديمه، لمدة تكاد تصل إلى عام كامل حتى الآن، ومنع جيش الاحتلال من حسم الحرب وإعادة المهجرين إلى منازلهم. صحيح أن هذا لم يوقف حرب الإبادة على قطاع غزة حتى الآن، ولكنه رفع الثمن الإسرائيلي من هذه الحرب، وحدّ من قدرات دولة الاحتلال على تحقيق أهدافها، ووضع المزيد من علامات السؤال بشأن قوة الردع الإسرائيلية.

لو كان حزب الله على علم بطوفان الأقصى وتعهد لحركة حماس بخوض حرب شاملة، وأنه قادر عليها، لكان التقييم مختلفًا، ولكنه خاض حرب الاستنزاف المناسبة لدرجة استعداده على الرغم من عدم علمه مسبقًا، وعلى هذا يستحق التقدير وليس اللوم، ويحسب له وليس عليه.

ولمن يدفع أو يلح على تقييم ليس أوانه للسابع من أكتوبر، أو للدور الذي يقوم به محور المقاومة وحزب الله تحديدًا ووحدة الساحات، نقول له انظر بمعيار واحد، في الوقت الذي لا ينبس ببنت شفة عن الأطراف العربية التي لم تكتف بعدم إطلاق رصاصة واحدة نصرة لغزة، بل لم تقطع الدول التي طبعت علاقاتها مع دولة الاحتلال، ولم تهدد حتى لفظيًا بفعل ذلك.

وهناك ما يمكن أن يقال عن مدى حكمة تنفيذ طوفان الأقصى وعن دور محور المقاومة، ولكن في الوقت والمكان المناسبين، وحوار بين حلفاء وأصدقاء في معسكر واحد.

ولكن، لو تخيلنا لوهلة أن هذا المحور ليس موجودًا وكانت إيران سائرة في ركب أميركا أسوة بالدول العربية لكانت إسرائيل ستسرح وتمرح في عموم المنطقة، وحققت هدف نتنياهو الذي أعلن عنه بتغيير الشرق الأوسط من دون ثمن أو بأبخس الأثمان .

لقد تبنت حكومة دولة الاحتلال برنامج الضم والتهويد والتهجير، وخطة حسم الصراع التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من كل أبعادها قبل طوفان الأقصى، وكان من المفترض والطبيعي المبادرة برد وطني موحد متناسب معها مستند إلى رؤيا شاملة وإستراتيجية وقيادة واحدة، وإلا ستنجح في حسم الصراع، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث للفلسطينيين وقضيتهم، ولكن هذا لم يحدث، وفتح المجال لحدوث ما حدث، ولا يمكن إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء، والقيام بدلًا من ذلك بتقليل الخسائر والأضرار وتعظيم المكاسب وتوظيف الفرص المتاحة.