كيف يقود بوتين العالم لأخطر مرحلة منذ انتهاء الحرب الباردة؟


07:15 م


الأربعاء 23 فبراير 2022

(دويتشه فيله)

رغم أن الرئيس بوتين أكد عدم سعيه لإعادة بناء الإمبراطورية الروسية، غير أنه أدخل العالم عمليا أخطر مرحلة منذ الحرب الباردة. كما أن تحالفه مع الصين يؤجج مخاوف الغرب من استقطابات بتداعيات بعيدة المدى على العلاقات الدولية.

اعتبر عدد من الخبراء الغربيين خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن فيه الاعتراف بجمهوريتي لوهانسك ودونيتسك في شرق أوكرانيا كدولتين مستقلتين، بمثابة إعلان حرب ولحظة تحول أساسية في العلاقات الدولية، قد تؤسس لحرب باردة جديدة ذات تداعيات جيوسياسية غير محسوبة العواقب.

الأزمة الأوكرانية أعادت أيضا إحياء هواجس الغربتجاه التحالف الصيني الروسي، خصوصا بعد دعوة بكين للغرب في 27 يناير الماضي بأخذ “مخاوف موسكو الأمنية المعقولة” بعين الاعتبار. عدد من المراقبين في الغرب دقوا أيضا ناقوس الخطر بعد إعلان الرئيسين الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين مطلع شهر فبراير الجاري عن ما أسمياه بـ”حقبة جديدة” في العلاقات الدولية.

وتتهم عدد من دوائر صنع القرار في الغرب موسكو وبكين بالسعي لفرض نموذجهما “الاستبدادي” في الحكم وكذلك تغيير القواعد القائمة في العلاقات الدولية. وفي مداخلة له عبر الفيديو خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، انتقد وزير الخارجية الصيني وانغ إن ضمنيا حلف شمال الأطلسي، معتبرا أن “أمن منطقة ما لا يمكن تحقيقه بتعزيز التكتلات العسكرية” في إشارة منه إلى مساعي حلف الناتو للتوسع شرقا. وترى الصين في سياسة الغرب تجاه تايوان تدخلا مشابها لما تتّهم به موسكو الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في أوكرانيا.

غير أن التحالف الصيني الروسي ليس بالضرورة بتلك الصلابة التي يوحي بها، إذ يبدو فيه بوتين، وفق بعض التحليلات الشريك الأضعف. موقع “شبيغل أونلاين” في 20 فبراير ذهب إلى القول إنه “بانتقاده للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وحلف شمال الأطلسي، انحاز وزير خارجية الصين إلى جانب روسيا في مؤتمر ميونخ للأمن. ولكن عندما تطرق إلى التهديد الذي يواجه سيادة أوكرانيا، فإنه ابتعد عن موسكو”. هذا التنويع الدقيق يظهر أن بكين لن تمنح موسكو شيكا على بياض في حال غزوها لأوكرانيا.

لما ذا يؤسس خطاب بوتين لحقبة جديدة في العالم؟

في خطاب حماسي ومثير، شكّك بوتين في حقّ أوكرانيافي الوجود كدولة، كما طعن في شرعية حكومة كييف، متهما إياها بالسعي لحيازة السلاح النووي. خطاب بوتين كان عبارة على سرد تاريخي طويل، ضمًنه الاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في شرقي أوكرانيا، محملا كييف “كامل المسؤولية” عن أيّ سفك للدماء. وتحشد روسيا منذ أسابيع نحو 150 ألف عسكري عند الحدود مع أوكرانيا، ما يدفع للاعتقاد بأن بوتين قد يذهب لحد غزو أوكرانيا برمتها، وفق تقارير استخباراتية غربية. غير أن المحللين لا يزالون منقسمين بشأن الاستراتيجية البعيدة المدى التي يسعى بوتين لانتهاجها، بين من يرى أن سيناريو الغزو الشامل لا يزال مطروحا ومن يتوقع أن يسعى بوتين للحفاظ على الأمر الواقع الجديد.

ويهذا الصدد كتب موقع “تي.أونلانين” الألماني أمس الثلاثاء، أن خطاب بوتين كُتب لكي “يكون درسًا للغرب، ومبررًا للمشاريع الروسية. خطاب يمكن أن يغير العالم على المدى الطويل، لا سيما بالنسبة للهيكل الأمني لأوروبا ما بعد الحرب الباردة. ولا تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها لا يعرفون كيف يردون على الوضع الجديد”. واعتبر الموقع أن خطاب بوتين تضمن تهديدا واضحا للجمهوريات السوفياتية السابقة، إذ رأى أن السماح لها بمغادرة الإمبراطورية الروسية كان بمثابة “جنون”، بل وصف ذلك بـ”السطو”. وهو ما يمثل “تهديدا ليس فقط ضد بيلاروسيا وأوكرانيا وجورجيا وأذربيجان وغيرها، ولكن أيضًا ضد الدول الأعضاء حاليًا في الناتو مثل ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا” وفق “تي.أونلاين”.

انتهاك اتفاقية باريس ـ العالم يدخل مرحلة مضطربة

في رد فعله على التطورات في شرق أوكرانيا، اعتبر رئيس مؤتمر ميونخ الدولي للأمن المنتهية ولايته، فولفغانغ إشينغر، أن العالم بات مقبلا على حقبة جديدة وخطيرة. وكتب إشينغر في تغريدة على موقع تويتر 22 فبراير “سيبقى هذا اليوم محفورا في الذاكرة باعتباره اليوم الذي انتهى فيه نهائيا الأمل والحلم في هيكل أوروبي قائم على ميثاق باريس”، مضيفا أنه جاء الآن عهد جديد أكثر خطورة. وأشار إشينغر إلى تغريدة لعالم السياسة الروسي، ديميتري ترينين، والتي جاء فيها أن اعتراف موسكو بدونيتسك ولوهانسك فيه تجاوزات بارتدادات غير محسوبة العواقب. فعقب إعادة توحيد ألمانيا في نوفمبر من عام 1990، تم إبرام ميثاق باريس لإنهاء الحرب الباردة وبالتالي المواجهة بين الشرق والغرب. اتفاقية باتت اليوم في مهب الريح، فهل يعني ذلك دخول العالم في حرب باردة جديدة؟

موقع “فيلت” 20 فبراير كتب معلقا “انبعثت الحرب الباردة من بين أنقاض الموتى من جديد كما في أفلام الرعب. وفجأة ظهرت مكائد دبلوماسية وإهانات خفية “لا مهلة – التاريخ يُصنع الآن. إنه يتقدم! كانت هذه كلمات أغنية في الثمانينيات لمجموعة الموجة الألمانية الجديدة الغنائية فيلفاربن”. ربما كان أولاف شولتس حينها، شابًا بشعر مجعد، يرقص على إيقاع هذه الأغنية في مراقص هامبورغ ويحلم سرًا أنه في يوم من الأيام سيتم استدعاؤه هو نفسه لصنع التاريخ”. أما موقع “كابيتال” الاقتصادي في 22 فبراير فاعتبر أنه بات الآن لحلف الناتو مهمة افتقدها خلال العقود الأخيرة “قرار فلاديمير بوتين، الذي وضع العالم في حالة ترقب منذ أسابيع، مثيرا حيرة رؤساء الدول بعد استقبالهم على طاولته الطويلة السخيفة. فللمرة الثانية منذ 2014، قام بانتهاك حدود دولة ذات سيادة، في خرق للقانون الدولي. لم يعد بإمكاننا أن نأمل في أن يتخلى عن هذا الأمر”.

شرق أوكرانيا ـ برلين تعتبر أن روسيا “نزعت قناعها”

اعتراف موسكو بالمنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا وإرسالها قوات إليهما يدفع في اتجاه السيناريو الأسوأ وفق برلين التي تخشى من تصعيد عسكري يؤدي إلى غزو روسي لكامل الأراضي الأوكرانية. فتحت عنوان “نهاية وهم” كتب موقع “شبيغل أونلاين” اليوم أن “السياسة الخارجية الألمانية اعتمدت لسنوات على الحلول الدبلوماسية للصراع بين روسيا وأوكرانيا. غير أن عدوان بوتين حطم كل تلك الآمال”، ما يضع التحالف الحاكم في برلين في وضع محير وفق الموقع.

الخطوة الروسية أثارت تنديدا دوليا وتهديدات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وخلال الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن الدولي قالت ألمانيا إن روسيا كشفت نواياها الحقيقية بعد إرسالها لقوات عسكرية إلى منطقتي دونيتسك ولوهانسك. وقالت مندوبة ألمانيا لدى الأمم المتحدة أنتيه ليندرتزه إن “روسيا أكدت مرارا أنها ليست طرفا في الصراع (الأوكراني). ونزعت اليوم قناعها، وأظهرت أنها كانت (طرفا) دوما”. وأضافت ليندرتزه: “سنتخذ إجراءات صارمة وكافية إلى جانب حلفائنا وشركائنا في رد فعل تجاه انتهاك روسيا للقانون الدولي الذي ستكون له تبعات اقتصادية وسياسية وجيواستراتيجية خطيرة”. صحيفة دي ستاندارد البلجيكية كتبت معلقة “أوضح بوتين إلى أي مدى مستعد أن يذهب، بشأن رؤيته لهيكلية أمنية تحتاجها روسيا. لقد أذهل الغرب بهذا التصميم. لا أحد يريد أن يموت من أجل أوكرانيا. العقوبات المعلنة اعتراف بالضعف. هناك خلاف حول السرعة التي يجب أن تأتي بها ومدى صعوبة فرضها. بوتين مستعد لكل ما تنوي أوروبا والولايات المتحدة فعله”.

برلين أوقفت مضطرة خط أنابيب نورد ستريم 2

أوقفت الحكومة الألمانية إجراءات اعتماد خط أنابيب الغاز الروسي-الألماني نورد ستريم 2 حتى إشعار آخر، وفق مصادر حكومية في برلين، وهي التي تعرضت لضغوط شديدة من قبل حلفائها لوقف هذا المشروع حتى قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية. وكان المستشار أولاف شولتس قد رفض التعهد صراحة بذلك، سواء خلال لقائه الرئيس جو بايدن في واشنطن أو خلال زيارته مؤخرا لموسكو. وتعهد بايدن نفسه خلال زيارة شولتس لواشنطن “بوضع حد لنورد ستريم 2 إذا غزت روسيا أوكرانيا. ويذكر أن خط الأنابيب هذا يربط غرب أوروبا باحتياطيات الغاز الروسي عبر بحر البلطيق. واكتمل المشروع، لكن التصاريح التنظيمية لتشغيله لا تزال معلقة في ألمانيا، ما يعني عدم تدفق الغاز حتى الآن. وسبق للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن دعا بدوره بوقف فوري للمشروع وطالب بمعاقبة روسيا على اعترافها بالمنطقتين الانفصاليتين في بلاده.

وأدان المستشار الألماني أولاف شولتس خطوة الكرملين بالاعتراف بجمهوريتي لوهانسك ودونيتسكواعتبره خرقا خطيرا للقانون الدولي. وأوضح أن “الوضع اليوم مختلف بشكل جذري”، مضيفا أن بوتين لم يخرق عبر أفعاله في شرق أوكرانيا اتفاقية مينسك فحسب، بل انتهك أيضا ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص على الحفاظ على وحدة أراضي الدول وسيادتها. وبهذا الصدد كتب موقع “تسايت أونلاين” الألماني 22 فبراير “تسبب نورد ستريم 2، منذ البداية في خلاف بين ألمانيا والولايات المتحدة. وترى واشنطن وكييف ودول أوروبية أخرى وخاصة الشرقية منها، أن خط أنابيب الغاز هذا أداة جيوسياسية في يد الحكومة الروسية، حتى قبل التصعيد الأخير في الأزمة الأوكرانية، ما عزز الشعور بالخوف من زيادة الاعتماد على الطاقة الروسية، الأمر الذي سيجعل أوروبا عرضة للابتزاز السياسي”.

وإضافة إلى ذلك، فرضت دول غربية عقوبات جديدة على روسيا، فقد أعلن الرئيس جو بايدن أن العقوبات الأمريكية ستُطبق على بنك “في.إي.بي” وبنك الجيش الروسي “برومسفياز” الذي يبرم صفقات دفاعية. كما ستطبق عقوبات على أفراد من النخبة الروسية وأسرهم. كما أعلنت واشنطن تقييد التعاملات في السوق الثانوية على السندات السيادية الروسية التي تصدر بعد الأول من مارس.

وأعلنت كندا أيضا خطوات مماثلة وسوف تفرض عقوبات على أعضاء البرلمان الروسي الذين صوتوا لصالح قرار الاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين. غير أن عددا من الدول الغربية أحجمت عن فرض عقوبات أشد في محاولة لتجنب هجوم روسي أكبر. واستهدف الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بشكل أساسي بنوكا روسية وقدرتها على العمل دوليا، حيث من المرجح أن يكون تأثير ذلك ضئيلا.

الصين لا ترغب بالضرورة في حليف روسي نِدٍي

عكس حسابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا تبحث الصين بالضرورة في شراكتها مع موسكو عن حليف على قدم المساواة. غير أن التقارب الصيني الروسي يوازيه مع ذلك التباعد المطرد بين واشنطن وبكين، تباعد زاد إيقاعه خلال ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، اتجاه لم يبادر الرئيس الحالي جو بايدن إلى إيقافه بأي شكل من الأشكال. وبالتالي يمكن استنتاج أن سعي الغرب إلى تحجيم دور الصين كمنافس استراتيجي، هو الذي زاد من زخم التقارب الصيني الروسي. غير أن التدقيق في طبيعة هذه الشراكة تظهر أن الموقف الصيني أكثر تعقيدا في الواقع. فمن جهة، تتشبث بكين بمبدأ سلامة وحدة الأراضي الوطنية للبلدان، إلا أنها أبدت في الوقت ذاته تفهما للحشود العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية ودعت الغرب إلى أخذ “الاحتياجات الأمنية لروسيا” بعين الاعتبار معربة صراحة عن معارضتها لتوسع حلف الناتو في شرق أوروبا. غير أن من يقرأ بين السطور، يفهم أيضا أن بكين ليست مستعدة للذهاب إلى حد دعم مفتوح لروسيا في صراعها مع الغرب.

صحيفة “تاغسشبيغل” البرلينية يوم الاثنين، كتبت مقالا تحليليا بهذا الصدد، وذهبت إلى القول إن الصين ستستغل بلا رحمة عزلة روسيا اتجاه الغرب. بمعنى أن حسابات بوتين في النزاع الأوكراني قد تزيد من تبعية موسكو لبكين وتجعله من حيث لا يدري، يضع كامل بيضه في سلتها. فمن وجهة نظر صينية “أفضل ما يمنكه أن يحدث هو اقتصاد روسي منفصل كليا عن الغرب، غاز روسي لا يتدفق نحو أوروبا بتغيير مجراه شرقاً نحو الصين المتعطشة للطاقة. جميع الثروات المعدنية في سيبيريا التي تحتاج فيها روسيا إلى رأس مال الغرب وخبرته لتطويرها ستكون في هذه الحالة متاحة حصريًا للصين، وكذلك مشاريع البنية التحتية الجديدة في روسيا”.

سيادة أوكرانيا.. بكين تفاجئ بوتين من قلب بافاريا

خلال اجتماع مجلس الأمن الدولي الثلاثاء، الذي دعت إليه كييف، دعت الصين جميع الأطراف المعنية بالأزمة الأوكرانية بممارسة ضبط النفس وتجنب أي أفعال قد تزيد التوترات. وجاء ذلك بعدما اعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستقلال منطقتين انفصاليتين في شرق أوكرانيا. وفي مؤتمر ميونخ للأمن، دعا وزير الخارجية الصيني وانغ إن إلى حل سلمي للصراع في شرق أوروبا، محذرا بشكل غير مباشر من هجوم على أوكرانيا. “يجب حماية واحترام سيادة واستقلال وسلامة أراضي كل بلد. هذا هو أحد المعايير الأساسية للعلاقات الدولية”. وشدد على أن أوكرانيا ليست استثناء. وهذا يظهر أن تأييد بكين لموسكو لا يعني تبني كامل موقف الكرملين.

صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ” السبت الماضي، كتبت أن موقف وزير الخارجية الصيني خلال مؤتمر ميونخ للأمن الرافض لأي تدخل عسكري في أوكرانيا، ربما يكون قد فاجأ الرئيس بوتين، فـ “عندما زار بوتين بكين مؤخرًا لافتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، بدا الأمر كما لو أن القوتين العظميين الاستبداديتين اندمجتا في نفس الروح. فقد وقع رئيس الدولة وزعيم الحزب شي جينبينغ وثيقة مشتركة (مع نظيره الروسي) ضد توسع الناتو، ما أعطى الانطباع بأن بكين منحت الرئيس الروسي دعما واسع النطاق في مواجهته مع الغرب”.

ويذكر أن البلدين وبهدف ترسيخ تقاربهما وضعا كل خلافاتهما جانبا، ولو مؤقتا، خصوصا تلك المتعلقة بالسيادة على أراض في أقصى شرق روسيا وكذلك توسيع نطاق النفوذ الصيني في جمهوريات سوفياتية سابقة في آسيا الوسطى. واستطردت الصحيفة الألمانية موضحة أن “ملاحظة بكين بأن مبادئ السيادة والاستقلال وسلامة الأراضي تنطبق أيضًا على أوكرانيا تظهر حدود التحالف الروسي الصيني” وذهبت إلى حد وصف الموقف الصيني بـ “نكسة دبلوماسية” لبوتين.