– مارينا ميلاد:
بــيروت، فجر يوم الأحد 8 ديسمبر
يدق هاتف ربا الزهوري عند الرابعة فجرًا، يباغتها صوت متهدج ممتزج بالبكاء على الناحية الأخرى، كان لـصديقها وهو يخبرها: “ما ضل فيه شيء يا ربا، ما ضل فيه نظام!”، ويقصد بذلك نظام الرئيس السوري بشار الأسد الذي أعلنت المعارضة السورية أنه سقط بعد حكم دام 24 عامًا.
لم تصدق ربا السورية ما يقوله، فاعتقدت لوهلة أن يكون في غير حالته الطبيعية أو أنه أساء الفهم، حتى تأكدت وفعلت مثله من شدة فرحتها.. ظلت مستيقظة الليل كله، تغالب النوم بمتابعة الأخبار وصور الاحتفالات. ولما أشرقت الشمس، قررت – دون تخطيط وتفكير- أن تذهب إلى هناك، إلى بلدها ومدينتها “القٌصير” التي خرجت منها مُرغمة مع عائلتها قبل 13 عامًا.
“ربا” واحدة ضمن 14 مليون لاجئ سوري نزحوا من منازلهم بعد اندلاع الصراع السوري عام 2011، واليوم يمكنها أن تعود وترى بيتها مرة أخرى وما جرى لمدينتها. لكنها ستعود على واقع ضبابي، مشوش، سعيدًا في جزء كبير منه وتعيسًا في جزء كبير أيضًا.
تحركت “ربا” من بيروت، حيث تقيم، دون أن تخبر عائلتها حتى لا يمانعون. كذلك اعتذرت عن عملها ليوم واحد بحجة أنها مريضة.
استقلت الحافلة الضخمة المزدحمة، وكلها حماس لرحلة غير محسوبة ولا مضمون نتائجها.
لا حديث يدور حولها إلا عن سوريا وكيف سقطت دمشق ورئيسها أسرع مما يتوقع أو يتمنى أحد. الكل يمسك هاتفه ويتبادل الأخبار: بشار الأسد وعائلته هربوا!، المعارضة السورية المسلحة دخلت العاصمة دمشق عقب انتصارات متتالية حققتها خلال 10 أيام!، ثم بيان المتحدث باسم “غرفة عمليات فتح دمشق” على شاشة التلفزيون الرسمي وهو يعلن إطلاق سراح جميع المعتقلين ويدعو للحفاظ على جميع ممتلكات الدولة.
كانت “ربا” مشتتة تمامًا مما يجري، ولا تدرك ماذا ستفعل تلك الفصائل المنسوبة للمعارضة لاحقًا؟، من سيتولى منهم زمام الأمور؟، لكن على كل حال، فهي في هذه اللحظة لا يهمها سوى العودة فحسب.
تركت “ربا” هاتفها، وحاولت أن ترتاح قليلا، فالطريق لازال طويلا من بيروت حتى المعبر.
لكن ذكرياتها طاردتها وحالت بينها وبين النوم. تذكرت كيف خرجت كل هذه الفصائل تباعًا، وذلك اليوم “الغابر”، كما تصفه، يوم تركت سوريا وعمرها 16 عامًا وهربت مع أهلها إلى لبنان.
مدينة القصير (ريف حمص)، مارس 2012
كان الطقس باردًا، والتوتر يغطي المدينة كلها كأنه سحابة غير مرئية، فإطلاق النار قد يطول عشوائيًا أي شيء أو شخص يتحرك.
الوسيلة الوحيدة المتاحة للنجاة من القصف وإطلاق النار أمام أسرة “ربا” وغيرها من ساكني المدينة، هي الاختباء في ملاجئ تحت الأرض.
في الخارج، ينتشر عناصر الجيش السوري الحر (المنشقون عن الجيش النظامي) في الأنحاء أو على الأسطح ليراقبوا الوضع.. يرون على مرمى البصر أن المدينة على مشارف السقوط في أيدي قوات الجيش التابع لبشار الأسد. فباتت خسارتهم أكيدة وقريبة.
ومدينة القُصير التي تبعد نحو 20 كم عن حمص، مهمة لكلا الطرفين، فهي منطقة حدودية مع لبنان، ويمكن وصفها بـ”طريق الإمداد الرئيسي لنقل الأسلحة وتدفق المقاتلين”، خاصة للنظام السوري وحزب الله.
ليلة 12 مارس، قررت أسرة “ربا” ووالدها، الذي يعمل طبيبًا، ألا يتحملوا ما هو أكثر من ذلك وأن ينجوا بحياتهم إن استطاعوا. فلملموا ثياب قديمة ظنا منهم أنهم سيعودون بعد فترة قصيرة، ولنفس السبب، سيخرجون بشكل قانوني.
مشوا بأقدام مترددة في طرق مظلمة ومقطوعة، وظل القصف والضرب يرافقهم حتى عبروا إلى الحدود اللبنانية.
التفتوا ناظرين نظرة وداع مؤقت لما تركوه ورائهم، لبلدتهم التي تجاور نهر العاصي، وتحاوطها الأراضي الزراعية، ولوالد “ربا” فيها أراضي وممتلكات، ولبيتهم الواسع الذي يشبه “بيوت الشام القديمة”، كما ترسمه “ربا” في مخيلتها، فمدخله يتوسطه بركة مياه وزرع وورد، وأثاثه جديد ومُرتب.
ثم مضوا في طريقهم نحو لبنان، وعلى عكس ما تمنوا وتوقعوا، لم يعودوا لـ13 سنة كاملة!
تداخلت الأسباب معًا، فخشوا الاضطهاد كونهم طائفة سنية ومن سكنوا وسيطروا على بيوتهم وأراضيهم من الشيعة، ولأن إخوة “ربا” الاثنين مطلوبان للجيش، كما “أن كل أهل القصير عليهم نقطة سوداء مع النظام السوري كونهم أول من شارك بالثورة ضده”، هكذا تُلخص “ربا” الأمر.
لكنهم ظلوا على تواصل ومتابعة لجيرانهم وأهل مدينتهم الذين نزحوا، فحتى من نزحوا داخليًا مثل “أبو وليد” الذي ذهب لمنطقة بريف حمص الجنوبي، لم يُسمح له بالعودة لسنوات، فيقول “إنه قدم عدة طلبات ووضع اسمه في قوائم العودة إلى المدينة، لكنه لم يتلق الرد، وحتى ما يملكه من الأراضي الزراعية صار يزرعها ويحصدها شخص من الطائفة الشيعية”.
ولما سمح نظام بشار الأسد في عام 2019 بعودة “خجولة” لـ3 دفعات من أهالي القصير إلى منازلهم، كان “أبو وليد” من ضمنهم أخيرًا، وتفقد منزله على أن يعود مجددًا ليبدأ إعادة بنائه، لكن خاب عشمه ولم يحدث شيء.
فكل ما وصل لعائلة “ربا” طوال تلك السنوات، قطع أوصال الأمل لديهم.
ولا تتخيل أن الأمل عاد مرة أخرى اليوم وأنها في طريقها إلى سوريا الآن.. تتوقف الحافلة التي تستقلها في منتصف طريقهم لينضم إليهم آخرون، ويوقف ذلك فيض ذكرياتها التي تلاحقت في رأسها.
ثم تعاود لتفكر في كيف مر كل هذا الوقت؟ كيف مرت أيام اللجوء بعدما عبروا الحدود الفاصلة؟، وهي أيام لم تكن سهلة على الإطلاق.
تصف “ربا” ملامحها بأنها “كانت عبارة عن معاناة من العنصرية تجاههم، عذاب التعليم لعدم توفر الأوراق المطلوبة، فكان من الصعب عليها أن تأتي بأوراق التسلسل الدراسي من سوريا، من داخل منطقتهم المنكوبة !..”
وبعد نحو 4 ساعات، وصلت “ربا” للحدود السورية عند معبر “جوسية” الأقرب لمدينتها، ولم يعترضهم أي نقطة تفتيش.
نزلت عند المعبر، وهاتفت والد صديقتها ليرسل لها سيارة لتأخذها، وقطعت بها ساعة أخرى وصولا إلى مدينة القُصير التي يقيم فيها 5000 شخص أو أقل، وفقا لتقديرات غير رسمية، من أصل سكانها الذي تجاوز 40 ألف في عام 2011.
أطلت برأسها من نافذة السيارة طوال الطريق، ولم تعلم أن فتح النافذة سيجلب لها ما لا ترغب في رؤياه.. فأخذت تحدق في كل الأماكن، في كل ما تمر من جانبه، وتحاول أن تتذكر كيف كان؟، فكل شيء تبدل أو راح.
أحست بالكثير من القلق والحيرة في تلك اللحظة، فتقول: “ما توقعت هذا المنظر المؤلم، ما توقعت كل هذا الدمار، بس بنفس الوقت في شعور غريب أول ما تحطي قدمك بالأراضي السورية إنو كيف بعد 13 سنة لجوء صار هيك فجأة!”.
قبل مجيء “ربا”، غادر ما لا يقل عن 150 مركبة مدرعة تقل مئات المقاتلين من حزب الله المدينة على مراحل، وفقا لمصادر من الجيش السوري لـ”رويترز”.
قضت “ربا” الليلة عند صديقتها، لتستيقظ في الصباح وتذهب إلى بلدتها عبر شوارع خالية ومدمرة جعلتها أشبه بمدينة أشباح، فكانت تردد لصديقتها: “هذا شارعنا؟!.. نحن نحن كنا بمنطقة الأثرياء!”.. ثم التقت ببيتها، لكنها لم تعرفه!
لم يبق أي شيء بالبيت على حاله، أول الأمر أنها وجدت عائلة علوية (شيعية) تسكنه، لكنهم لم يمانعوا في أن تدخل وتراه، وهو ما جعل صدمتها تزيد، وهي تقلب عيناها فيه وتسير وسط جدرانه المليئة بالرطوبة. فتحكي: “البيت بحالة سيئة.. ما في أبواب، ما في شبابيك.. حاطين نايلون على الشبابيك، المطبخ مسروق منه كل شيء، وهو ما عرفنا أنه صار بـ2013، والصالون تحول لغرفة فيها حطب!”.
خرجت “ربا” من البيت واجمة، لم تكن تتخيل أن يتحول بيتهم ومكانهم هكذا، ولم تتحدث مع الأسرة عن خروجهم الآن من البيت.
ربما تكون هذه الأسرة وغيرهم من العلويين المتركزين في مدن الساحل السوري هم أكثر المنزعجين من خبر سقوط بشار الأسد. الرجل الذي ينتمي للطائفة نفسها ومثل لهم “رمز الحماية”. فيقول أحدهم (رفض ذكر اسمه)، “أول لما سمعنا بالخبر شعرنا بخوف كبير وضياع، ماذا سيفعلون معنا؟ لكن مخاوفنا هدأت قليلا بعد ما رأينا تعامل جيد وأنهم وعدوا باحترام جميع الطوائف”.
حاولت “ربا” ألا تفسد الأمر، ولا تقف طويلا عند ما أصاب بلدتها وبيتها، فتحركت باتجاه “حمص” لتحضر الاحتفالات التي تعم الطرقات، اختلطت دموعها مع دموع الآخرين. وحولهم، كانت صور “بشار” تتساقط من كل جدار ويُمحى كل ما يٌذكر بعائلته.. فتقول: “المشهد كله يصعب وصفه وشرحه وكتابته، الفرح كبير كتير بزوال هذا النظام”.
وما إن هدأ الاحتفال قليلا، حتى فاق الناس للتفكير في وضعهم الحالي، فاستمعت “ربا” لأحاديثهم عن الليرة السورية “التي صارت بالأرض مقابل الدولار (١$ =٢٥ ألف ليرة سورية)”، كما تذكر، و”أن هناك أخبار عن التعامل بعملة جديدة، أي حرق العملات الموجود عليها صور للنظام”، وأن “الجميع منتظر ما ستفعله الحكومة الانتقالية”.
Main Photo by marina melad
عادت “ربا” إلى لبنان مرة أخرى في اليوم نفسه، عبر معبر “جوسية”، كما جاءت، حاملة معها كل ما رأته وشعرت به في ليلتها السورية الخاطفة، كل المشاعر المختلطة، كل إحساس وعكسه: “شوق وحنين وخوف وحيرة وفرح وحزن”، كما تقول.
وبينما تخرج، وجدت آخرين يدخلون عبر الحدود، كانوا من العلويين والمسيحيين، فهؤلاء، كما عرفت “ربا”، هربوا على لبنان مع بداية التصعيد الأخير، وعادوا لما وجدوا الأمور آمنة بالنسبة لهم.
لا تعرف إن كانت ستلحق بهم أم لا ومتى سيكون ذلك.. فتقول: “مش عارفين شيء.. بس أكيد بدنا نرجع أراضينا وبيوتنا”. تعلم “ربا” أن المخاوف لها ما يبررها: إسرائيل تتوغل، بينما المسرح السوري منشغلا، والكثير من المصائر مٌعلقة، والمعارضون يحررون السجون ويحاولون كشف أماكنها السرية خاصة سجن صيدنايا سيء السمعة.
ستنتظر الإعمار والهدوء وشكل سوريا الجديد، وستشاور عائلتها، لكن سواء عادت قريبًا أم لا، فالشيء الأكيد بالنسبة لها، كما تذكره، أن “الوطن كتير حلو.. ما بعرف ليش وكيف بس هو الانتماء اللي بحسسك بها الشيء.. العذاب الظلم اللجوء كله سبب كمان!”.
اقرأ أيضا:
تفاعلي|تحدث مع لاجئة سورية في لبنان وتعرف على خياراتها: الطريق لمعبر العودة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ