لا تفتشوا جيوب الشهداء بحثاً عن فصائله.. نبيل عمرو

مهما بالغت الدعاية الإسرائيلية، بأدواتها العملاقة في إظهار كم نجحت إسرائيل في جنين، وفيما تسميه دائما حربها على الإرهاب الفلسطيني- الإيراني!
إلا أن أصواتا أقوى ظهرت من داخل إسرائيل، وعلى ألسنة جنرالات وبرلمانيين وحزبيين ومثقفين، تحدثت صراحة عن فشل، وتحدثت بصراحة أكثر عن أن الحكومة ومعارضيها اتحدوا على استثمار معركة جنين، كل لمصلحة أجندته، وأساسها إبقاء الحكومة أو إسقاطها، إن لم يكن الآن ففي أي انتخابات قادمة.
المتنافسان الرئيسيان نتنياهو وغانتس، أكثرا من الظهور على وسائل الإعلام.. الأول بغرض تحسين وضعه المتراجع في الشارع، والثاني لتعظيم رصيده بعد أن تفوق في الاستطلاعات على نتنياهو، معتمدا مبدأ أن من يتغنى بأمجاد الجيش يحصد أصواتا إضافية، لذا بدا غانتس رجل المعارضة كما لو أنه هو صاحب قرار اجتياح جنين، وهو كذلك من يحصد “إنجازها”!
مبالغة نتنياهو في الاحتفال “بالنصر” على جنين، وإيعازه بإقامة معرض غنائم على معبر الجلمة، يظهر ضعف يقينه في الإنجاز، أي أن صوته المرتفع أشبه بصفير في ظلام، أو توليد انتصار دعائي من أحشاء حرب هو يعرف أكثر من غيره انعدام توازن القوة، ولو بحدودها الدنيا بين طرفيها.
كما يعرف، أن الذين قاتلوه في جنين، والذين ادعى أنه دمر بنيتهم التحتية، وكأنهم يمتلكون مصانع حربية، ومستودعات ذخيرة وملاجئ حصينة.
هو يعرف، أن البنية التحتية للمقاتلين في مخيم جنين، لا وجود لها، إلا إذا اعتبرنا احتضان الناس هو البنية التي لا مجال لتدميرها، وهذا ما ظهر أثناء الخمسين ساعة قتال.. وبعدها، حيث عاد المخيم وعادت المدينة إلى ما كانت عليه قبل المعركة وبمعنويات أعلى..
في حالة الاحتلال التي بشر بديمومتها وإلى الأبد نتنياهو، وحكومته، لا تقاس الأمور، بالقدرات التسليحية وبالبنى التحتية، وبالتكنولوجيا، ولا حتى بعديد المسلحين المشتبكين في مواقع محددة كما هو الحال في الحروب النظامية بين جيوش، وإنما تقاس بمدى القدرة على الحسم، فإسرائيل مالكة الجيش الأقوى، والأحدث، تظهر بعد كل موقعة صغيرة أو كبيرة عاجزة عن الحسم، أما الفلسطينيون فالحسم بالنسبة لهم هو بقاؤهم على أرض الوطن، وهذا ما هو متجذر وبازدياد، وإشعار خصمهم وبوسائل عديدة، بأنهم ليسوا وحدهم من يدفع الثمن، بل المحتلين كذلك، وإذا كانت جنين ومخيمها، هما رأس الحربة الملتهب فكل شعب فلسطين بملايينه المكتظة على أراضيها يرفضون الاحتلال، ويواصلون اعتناق مبدأ الحرية والاستقلال.
غير أن محظورا ظهر ويتعين عدم الإبطاء في معالجته ومنع تكراره، وهو التنازع على إنجاز الصمود، وقسمة البلد بين وطنيين مقاومين وغير وطنيين “متواطئين” وجنوح البعض إلى خلط الأوراق على نحو يوفر مزايا للمحتل، لم يحقق مثلها في حربه “المحرجة”، وحين تقوم إسرائيل بحملة عسكرية تحشد لها أفضل ما لديها من مقاتلين، وآليات برية وجوية، ولا يرفع المخيم ولا المدينة راية بيضاء. فهذا إنجاز أكبر من أن ينتحله فصيل أو دولة.
فهو إنجاز لثلاثة عشر ألف فلسطيني يعيشون في أصغر مخيم على وجه الأرض، وإنجاز لجنين المدينة ولفلسطين الوطن.
من ذا الذي يفتش في جيوب الشهيد ليتعرف على بطاقته التنظيمية، ومن هو الذي يجرؤ على نسبة الذي حدث لغير جنين المدينة والمخيم والوطن وكل الناس.
فليحذر الذين قاتلوا المعتدين بكفاءة وشجاعة رغم قلة إمكانياتهم من حقيقة أن القلاع الحصينة لا تسقط إلا من داخلها، وهذا ما ينبغي أن يحذر منه ليس المخيم والمدينة، بل الوطن كله.
الإعجاب الإسرائيلي بقوة المخيم، والمدينة الصلبة والعنيدة، والإعجاب العالمي بكون المخيم والمدينة جزءًا لا يتجزأ من كفاح شعب يتطلع إلى الحرية والاستقلال، ينبغي أن لا يبدده ما حدث في الجنازة، فالشهيد داعية وحدة وليس انقسام.
كلنا يعرف مثالب وضعنا الداخلي على صعيد السلطة والفصائل، وكلنا يجب أن يعرف أن معركة الإصلاح يمكن أن تتواصل بلغة وآليات راقية، ومعركة المصير لا تحتمل الانقسام.
العالم يدرك، وقادة إسرائيل وحدهم لا يدركون، أن الخلاص لا يكون إلا بجلاء الاحتلال، وبكل أشكاله.