تستقبل “إسرائيل” زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة في 13-16 تموز/يوليو، وهي أول زيارة له كرئيس للشرق الأوسط، بتكثيف عملياتها العسكرية والأمنية على الجبهات كافة، لاسيما على الجبهة السورية من خلال قصفها الغاشم لمطار دمشق الدولي، والذي يعتبر إعلان حرب على سوريا، بالإضافة إلى تسارع وتيرة عمليات الاغتيالات لشخصيات وقيادات إيرانية في إطار حرب الظلال التي تديرها “إسرائيل” ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، ومشروعها النووي والعسكري في آن واحد، إذ بات من الواضح أن “إسرائيل” تشعر بفائض من القوة، الأمر الذي يدفعها تجاه تغيير معادلات الاشتباك على الجبهات كافة، من خلال خلق أمر واقع جديد أكثر خدمة للأمن القومي الإسرائيلي، الأمر الذي يثير التساؤل: لماذا “إسرائيل” تشد الحبال على كل الجبهات في هذا التوقيت؟ وما العوامل التي تساعدها على ذلك؟ وما هي مآلات تلك السياسة الإسرائيلية؟
للإجابة عن تلك الأسئلة، يجب أن ندرك أولاً، أن “إسرائيل” تنتهج استراتيجية المعركة بين الحربين منذ انتهاء حرب تموز/يوليو 2006م، التي تهدف إلى إبعاد خطر الحرب الشاملة عن “إسرائيل” التي فقد “جيشها” قدرته على حسمها بالسرعة المطلوبة والأثمان المقبولة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تريد إنشاء قواعد اشتباك مع أعدائها مقبولة إسرائيلياً، ولكنها على المدى البعيد تمنح “إسرائيل” الوقت الكافي لاستعادة جهوزية “جيشها” على حسم الحرب، وفي الوقت ذاته، لا تمنح خصومها قواعد اشتباك مريحة لمراكمة قوتهم، استعداداً للحرب المقبلة.
تكمن ميزة استراتيجية المعركة بين الحربين في أنها استراتيجية مرنة غير ثابتة، يمكن تطويرها، كما أنها قادرة على دفع قواعد الاشتباك المتبادلة لمصلحة “إسرائيل” في حال وجود أي فرصة سانحة إسرائيلياً. لذلك، ترتبط الإجابة عن التساؤلات السابقة بفهم الفرص التي تعتقد “إسرائيل” بأنّها متاحة لها من أجل شدّ الحبال على كل الجبهات، ولعلّ أهم تلك الفرص:
أولاً، التغيرات في سوق الطاقة الدولية في إثر الأزمة الروسية الأوكرانية، والتي ولدت فرصة إسرائيلية، في ظل أزمة الطاقة والغاز في أوروبا بعد العقوبات الأميركية -الأوروبية على سوق الطاقة الروسي، الأمر الذي أعاد ارتباط الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين بموارد الطاقة في الشرق الأوسط، ما يشير إليه زيادة مشاريع نقل الطاقة، واستخراج الغاز ونقله عبر البحر المتوسط ومنه إلى أوروبا، الأمر الذي سيدفع كلاً من أوروبا والولايات المتحدة إلى إعادة تركيزها على منطقة الشرق الأوسط مجدداً بطريقة أكثر قوة بعد أن كادت تتنازل عنها للروس، وخاصة في شرق البحر المتوسط، وهذا مكسب استراتيجي بالنسبة إلى الإسرائيلي، من خلال اتجاهين:
الأول، ربط “إسرائيل” نفسها بكل مشاريع نقل الطاقة واستخراجها في الشرق الأوسط، يعيد تموضع “إسرائيل” كدولة وظيفية لدى الإمبريالية الدولية في المنطقة، بالإضافة إلى أن ذلك يجعل الدول العربية وخاصة الخليجية لها مصلحة في الدفاع عن “إسرائيل”، ضد أي هجمات فدائية كونها ستعطل عليهم نقل طاقتهم إلى أوروبا، وبذلك تصبح قضية حلف الدفاعات الجوية الشرق أوسطي، مصلحة خليجية كما هو مصلحة إسرائيلية، والأهم يعزز من الالتزام الأميركي والأوروبي في حماية الأمن القومي الإسرائيلي، الأمر الذي شابه كثير منالشوائب في الآونة الأخيرة. لذلك، ليس من المصادفة أن يصرح الرئيس بايدن أن رحلته إلى الشرق الأوسط ترتبط “بتعزيز التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل وازدهارها”، وعند حديثه عن حضوره اجتماع قمة مجلس التعاون لدول الخليج المزمع عقده في مدينة جدة، بحضور كل من مصر والأردن والعراق، أشار أن اللقاء “يرتبط بأمنهم القومي وبأمن الإسرائيليين”.
إذا ربطنا تصريحات الرئيس بايدن بما عرض في الكونغرس من تشريع من قبل الحزبين، في موضوع إقامة منظومة دفاع مشتركة في الشرق الأوسط للتصدي لهجمات جوية ولهجمات صواريخ من جانب إيران، والتي ستضم كلاً من الولايات المتحدة، “إسرائيل”، السعودية، الإمارات والبحرين، إلى جانب دول لم توقع على اتفاقات “ابراهام” كقطر والعراق، ندرك مقدار الثقة الإسرائيلية بقدرتها على محاولة تغيير قواعد الاشتباك على الجبهات كافة.
الثاني، ارتباط “إسرائيل” بهذا الكم من المشاريع الاقتصادية ذات الطابع الإقليمي، وخاصة مشاريع استخراج الطاقة ونقلها، يعزز من توطيد اتفاقات “ابراهام”، وتحوّلها إلى أحلاف عسكرية، ناهيك بإدخال دول جديدة على خط هذه الاتفاقات حتى ولو بطرق غير مباشرة في بداية الأمر، أضف إلى ذلك، تشجيع “إسرائيل” على حسم قضايا لم تجرؤ على حسمها في السابق، أهمها استخراج الغاز من حقل “كاريش” في المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، ناهيك بحجم العوائد المالية التي ستضخ في الاقتصاد الإسرائيلي.
ثانياً، التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية التي تعتقد بأن “إسرائيل” نجحت في اختلاق إشكاليات مهمة في الجبهة الداخلية المحيطة بالمقاومة على كل الجبهات، بدءاً من لبنان، مروراً بالعراق، وليس انتهاء في غزة، الأمر الذي ولد قناعة استخبارية إسرائيلية، بأن شد الحبل في أي جبهة من جبهات المقاومة لن يؤدي إلى حرب مفتوحة، كما حدث في مسيرة الأعلام الصهيونية في مدينة القدس في 29 أيار/مايو الماضي، وبالتالي يمكن لـ”إسرائيل” تغيير قواعد الاشتباك. ومن جهة أخرى، أن “إسرائيل” لم تعد وحدها في المعركة بل هي تستفيد من خدمات حلفائها الجدد في المنطقة في زيادة تعقيدات البيئة المحيطة بالمقاومة في كل الجبهات.
ثالثاً، فشل المفاوضات الإيرانية الأميركية في التوقيع على اتفاق نووي جديد، خاصة مع عدم وجود استراتيجية أميركية محددة للتعامل مع إيران بعد فشل الاتفاق، ما فتح فرصة أمام “إسرائيل” أن تحاول وضع خطوط عامة لهذه الاستراتيجية المستقبلية الأميركية، من خلال ما أطلق عليه اسم “الخطة ب”، والتي تتضمن الأنشطة المتواصلة والمكثفة والتدخل العميق من أجل المساس بقدرات إيران ومحور المقاومة على إطلاق المقذوفات على اختلافها، وتحييد جوانب أخرى من عمليات محور المقاومة الهادفة إلى تقويض الأمن القومي الإسرائيلي وحلفاء الكيان في المنطقة، مستغلة قدرة “إسرائيل” على لعب دور مركزي في ترتيب أوضاع حلفاء أميركا في المنطقة خاصة مع السعودية الحليف الأكثر إشكالية للولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يحول دون وجود معارضة قوية من إدارة جو بايدن للتصرفات الإسرائيلية، ناهيك بدعم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الصلب لـ”إسرائيل” التي تنظر إليها على أنها جزء من الأمن القومي للمنطقة الوسطى في الجيش الأميركي.
لكن، في المحصلة، نقطة الضعف الأساسية لاستراتيجية المعركة بين الحربين الإسرائيلية، أنه يجب على “إسرائيل” أن تكون في أتم الجهوزية لتدحرج الأمور تجاه الحرب المفتوحة، الأمر الذي نعتقد بأن “إسرائيل” وجبهتها الداخلية لم تصلا إليه بعد.