لماذا لا أكتب؟ ميساء جيوسي

صادفتني صديقة عزيزة منذ أيام، وبعد السؤال عن الأحوال بادرتني بسؤال قائلة لماذا توقفت عن الكتابة؟ كنت انتظر خواطرك الجميلة فلديكي أسلوب سلس يجعلني لا أمل من القراءة. ووجدتني بعد الشكر أقول لها بأنني سأحاول العودة مجددا للكتابة ما أمكنني ذلك. وبعد السلام مضى كل منا لسبيله وجال ببالي إجابة واضحة لسؤالها، لكني لم اشأ أن أرهقها بما يثقل القلب من هموم.

صديقتي العزيزة،

شيئا ما منذ عام تغير، شيء ما سحبنا جميعا فيما يشبه دوامة ضخمة ابتلعت كل ما كان من أيام لنخرج منها متشحين جميعا بالسواد، مثقلين بالتساؤلات، مطاردين بأصوات الضحايا وصرخات الثكالى. وأنا هنا لا أتكلم في مناحي السياسة، لأن ما نراه ونشهده لا يمت لحدود السياسة بأية صلة، ما نراه ونشهده ضرب عرض الحائط كل معايير السياسة والإنسانية واي سبب من أسباب الفهم لما جرى ولا زال يجري. 

صديقتي العزيزة،

ليس الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو الوحيد على الساحة الدولية، فنحن نرى صراعات دامية تعاني منها الشعوب في السودان وسوريا واليمن والعراق ولبنان والقائمة تطول. لكنها الحرب الوحيدة التي يعاني فيها الشعب الفلسطيني من محتل غاشم فرض عليه بتقسيمات استعمارية لازال يعاني من تبعاتها ولم يستطع من خلال اتفاقيات السلام والمعاهدات انتزاع أي حق من حقوقه بالعيش بكرامة وحرية. فما انفك المحتل ان يعلن سرا وجهرا ان التهجير القسري والإبادة الجماعية هي هدفه الرئيسي والأصيل. غزة هي المبتدأ وما يتبعها لن يختلف في الوحشية والضراوة.

صديقتي العزيزة، 

أتذكرين السيدة التي صرخت منذ عام بداية الحرب وهي تحتضن ما تبقى من أشلاء ابناءها تلومهم كيف انهم “ماتوا جوعانين!!) وأخرى هائمة تبحث عن طفل ابيض وشعره أحمر؟ كيف لي أن اكتب عن هؤلاء، وأنا أم يصيبني هلع على جرح يمس طفلي؟ كيف اكتب عمن يحاولون لملمة أصابع صغيرة بين ركام التهم الأجساد وهوى بالمنازل والمستشفيات والكنائس والمساجد محاولا محو الذكريات وطمس التاريخ وإبادة الإنسان.

صديقتي العزيزة،

اكتب لك ويعبر لأذني لحنا بصوب سميح شقير “لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم” حاولي ان تستمعي إليه لتعي ماذا يعني صمود شعب أعزل امام قوة نووية يدعمها العالم الغربي بكل ما يملك من عدة وعتاد. صحيح ان فلسطين هي البقعة الملتهبة في هذا الصراع، لكن من يعي ويفهم التاريخ يعلم بلا ما لا شك فيه بأن كل المنطقة مهددة بما يتطلع الغرب إليه من إنهاء أي فرصة لقيام عالم عربي يتمتع بأي من إمكانيات التطور والتقدم بأي شكل من الأشكال.

صديقتي العزيزة،

لا أدري ما يمكن ان يدور في عقلي لو أني عشت عاما كاملا تحت صوت الطائرات الحربية ورائحة الموت تملأ المكان؟ ما كنت اعلم ماذا سيكون شعوري لو أني امر بأجساد مقطعة ومبان منهارة وصراخ لهائمين في الأرض بلا مأوى سوى التراب وصرخات صداها الفراغ وسقفها السماء. 

صديقتي العزيزة،

ليس الدمار المادي بالمباني والبنية التحتية الذي نراه بأم العين هو الوحيد، فنحن جميعا سلب منا شيئا منذ عام. أصبح الفرح منقوصا، والطموح مسروق، والأمل مكبل وأصبحنا نشك بكل ما كان بالأمس قريبا من الحقيقة. اكذب إن قلت إني افهم ما جرى ويجري، فالكثير الكثير من المتناقضات تبدوا في المشهد، ويكذب من يدعي أنه يملك الحقيقة فيما حدث ويحدث. من يملكون الحقيقة في هذه اللحظة هم فقط طوابير من الأحياء الأموات، نساء وأطفال وأهل غزة ممن ليس لهم حيل ولا قوة وهم ينتظرون الموت على مرآى ومسمع من العالم “الجميل المتحضر” عالم هرع لنجدة الأطفال الأوكرانيين والنسا الأوكرانيات ومنحهم كل ما يمكن في حرب تواجه فيها روسيا كل اشكال القوانين والعقوبات التي يمكن لأمريكا والغرب فرضها عليها في صراع بين دولتين وجيشين وشعبين. أما الفلسطينيين العزل فهم يبادون بشكل ممنهج والعالم يعد الضحايا ويشجب ويستنكر حينما يضطر لذلك.

صديقتي العزيزة،

غنية هي اللغة العربية وزخمة، لكنها تعجز أمام صورة لجد ملتحي يقبل فم حفيدته الصغيرة الشهيدة، وهي يقول مع السلامة يا جدو!! أي كلام وأية قواميس تصف الألم وترسم حدود للصورة، أي مفردات تصف وحشية جيش يطلق كلابا لتنهش المسنين في بيوتهم؟ أي كلمات تصف أطفالا يبحثون عن أمهاتهم وأباءهم بين أجساد تعفنت في شوارع غزة تنهشها الكلاب. 

صديقتي العزيزة، 

أنا في كل ما ذكرت لست استثناء، لكني قد أملك زمام الكلام لأعبر عن المقهورين مما يرون ويسمعون، كل حر وشريف في العالم بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه ومكانه يئن صامتا وهو يشاهد ما يحدث أمام أعيننا من إبادة، لكننا قد نكون عاجزين؟ متخاذلين؟ ضعفاء؟ لا أدري ما هو الوصف الدقيق لكنني حتما سنحاكم في سرديات الأجيال القادمة بلا هوادة.

صديقتي العزيزة،

ليس لدي كلمات حتى في وصف عجزي عن الكتابة، كل ما اتمناه ان يكون كل هذا كابوسا وأنني سأستفيق لأجد أحياء غزة لازالت تعج بالحياة وبحرها وشطها يترنم على ضحكات الأطفال…. لكنه كابوس لازال يطاردنا ولا يبدوا لفجره نهاية قريبة، عذرا غزة، عذرا صديقتي ففي مثل هذه الفجائع يكون الصمت أبلغ.