خلصت في مقال طحال الأمة الإسلامية يوم نحرها” إلى أني لست من أنصار الإسلام السياسي ، لأني ببساطة مسلم و أدرك أن الاسلام كل لا يتجزأ فهو يغطي السياسة والاقتصاد و العبادات و المعاملات، كما أدرك جيدا أن ثمار الحضارة الغربية لا تحمل في المجموع إلا علقما، وسما في طعم عسل – ذلك بحكم تخصصي في قضايا التنمية-، و أن البديل الحضاري الذي يحمل النجاة للبشرية يكمن في رسالة الإسلام، و اعتقد جازما بان الحق سينتصر على طواغيت الباطل ، وان المستقبل لهذه الأمة التي قال عنها رب العالمين: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) ( سورة آل عمران ). .و أقبل استكمال هذا النقاش الذي جاء بعد نحو شهر من الانقطاع عن الكتابة و التأليف و التفاعل مع القراء و المتابعين أجد نفسي مدين لكل هؤلاء بالاعتذار عن هذا الغياب الاضطراري، فمقال أمس برأي اليوم اللندنية و تفاعل القراء و دعواتهم و حبهم الذي غمروني به، يضع على عاتقي حمل إضافي، فحمدا لله ان جعل من نصيبنا قراء و محبين بهذه النوعية الفريدة…فأحيانا يخذلك من تعتقد انهم قريبين منك و لكن تجد النصر من البعيد…حمدا لله على نعمة الحب في الله …و أجرنا الحقيقي في هذه الدنيا هو حب و دعوات هؤلاء القراء الكرام، فبهم يشعر الكاتب و المفكر ان ما يقوله يجد صدى لدى عقول بحق و حقيقة..و ليس اشباه عقول لا يستهويها إلا كل فارغ و تافه..
و عودة لنقاشنا فإن أفضلية هذه الأمة نابعة من إتباعها لرسالة الإسلام، ومن مناهضتها للظلم و الجور بكل أشكاله ، فهذه الأمة في عصورها المختلفة احتضنت كل المضطهدين، و حركة الجيوش لنصرة المستضعفين، والتاريخ لا يمكن مسحه بأباطيل حركات التبشير و الصهيونية المتجبرة ، فاليهود ذاتهم عندما طردتهم أوروبا في العصور الوسطى، فروا إلى مسلمي الأندلس وعندما طرد المسلمين من الأندلس لحق بهم اليهود، فمعظم العواصم العربية لازالت تحتضن أحياءا يهودية بين أسوارها في تعبير حي وملموس على عظمة الإسلام وتسامح أهله ..
لذلك، أعتقد بشكل جازم أن أمة الإسلام هي الملجأ الذي ستفر إليه البشرية في القادم من العقود، هربا من العبودية الاقتصادية و التفسخ الأخلاقي القادم، لكن قبل ذلك على هذه الأمة أن ترتب بيتها الداخلي، و أن تعيد حساباتها على ضوء كتاب الله وسنة رسوله، فالإسلام هو المنقذ، و بداية التغيير تنطلق من الفهم الصحيح لهذا الدين، و من التحليل العلمي للواقع القائم فالحرب ضد المسلمين في جوهرها و حقيقتها حرب دينية بعناوين مختلفة…
قضية أزيد من عقدين من الزمن في دراسة وتحليل تجارب تنموية دولية منها تجربة بلدان شرق اسيا و بخاصة الصين…الى درجة أصبحت ألقي محاضرات دورية بجامعات اسيوية حول الصعود الصيني…لقد انبهرت كغيري من الباحثين بالإنجازات التنموية التي تحققت في هذه البلدان و هو ما دفعني بالنهاية الى طرح إشكالية جوهرية لمادا فشل بنو أمتي ؟
و لعل قراء جريدة رأي اليوم و التي أعتبرها بيتي و امتداد لمشروعي الإعلامي الذي طالما حلمت و عملت به منذ عقد من الزمن، فقراء هذه الجريدة يعرفون جيدا خط تحريري كما يعرفون جيدا خط تحرير هذه الجريدة و رئيس تحريرها الأستاذ عبد الباري عطوان، فمن المعلوم و البديهي أن تجد هذا الرجل القامة و الهامة الصحفية و الإعلامية ، في صف نصرة قضايا الأمة العربية و الإسلامية، لذلك أتمنى لهذا الهرم الإعلامي موفور الصحة و طول العمر و البركة في الجهد، فهذا الهرم ما أحوج الأجيال الصاعدة لأمثاله لأنه لوحده مؤسسة إعلامية قادرة على نسف إدعاءات بارونات و أبواب الإعلام الصهيوني و المتصهين…
و عودة إلى الجواب عن سؤال لماذا فشل بنو أمتي ؟
أرى من واقع التحليل والتجربة والمقارنة الدولية أن التخلف و الانحدار، نابع من عامل الانقسام والتفكك و غياب مفهوم الوحدة والمصلحة المشتركة، فالعالم الاسلامي منقسم الى دويلات متصارعة ومتنافرة. و كل دولة إسلامية منقسمة بدورها على نفسها ، لا وئام بين عناصر شعبها ، وتجد من بينها مجموعة معينة وضع السادة المستعمرون السلطات في يدها… وليس هناك دولة أعطيت الوقت أو السلام أو الموارد اللازمة لتحقيق التكامل بين أبناء شعبها وتكوّن منهم وحدة واحدة ؛ ولم يسمح لأي دولتين أن تتحدا لتكونا معا وحدة أكبر… ولكي يصبح الوضع أكثر سوءاً استقدم العدو عناصر أجنبية إلى العالم الإسلامي كي يضمن وجود صراع مستمر بينهم وبين أهل البلد ؛ أو دس بين غير المسلمين من المواطنين فكرة الشعور بشخصية متميزة مما يضعهم في مواجهة مع المسلمين . وأخيرا، خلق العدو كيانات “أجنبية” داخل جسم الأمة وجعل منها دولاً معادية بهدف توجيه طاقات المسلمين بعيداً عن البناء واستنزافها في حروب لا طائل وراءها ، أو لتكون قاعدة يستخدمها الاستعمار إذا ما قرر أن يحتل تلك البلاد ثانية من أجل مصالح القوى الاستعمارية الاقتصادية و الاستراتيجية… وليس من بين الدول الإسلامية دولة تشعر بالأمن الداخلي ولا بالأمن الخارجي . إن كل حكومات الدول الإسلامية تنفق الجزء الأكبر من مواردها وطاقاتها لتأمين قوتها في الداخل وسلامتها من الخارج ولكن دون فائدة…لذلك عندما أركز في تحليل على التصور الإسلامي، ليس الأمر منبعه تدين شخصي ، أو الايمان بالغيبيات و الميتلفيزقيا كما يحلوا لبعض الزملاء، و إنما نابع من قناعتي بجدوى و فعالية هذه العلاجات القرأنية و فرادة التصور الإسلامي و تكامله، فالامة المتفككة و المنقسمة شكلا، هي في الواقع أكثر إيمالننا بخطورة التفكك ، لأنها تؤمن بأهمية الوحدة و الاعتصام بحبل الله، الإشكال أن هناك تلاعب بالعقول و محاولة تسفيه و استحمار الشعوب و تشويه حقيقة الإسلام في العقول ، اما في الحقيقة فإن من كمال التدين الإيمان بقوله تعالى : ( وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ ۚ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ( أل عمران 102-103)..
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟، قال: «نعم» فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَنٌ». قلت: وما دَخَنُهُ؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرِفُ منهم وتُنكِر». فقلتُ: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها». فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: «نعم. قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا». قلت: يا رسول الله! فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمينَ وإمامَهم». فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة، ولا إمام ؟، قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ((رواه مسلم)…
وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: “وأول مقصد للإسلام، ثم أَجَلُّهُ وأخطره: توحيد كلمة المسلمين، وجمع قلوبهم على غايةٍ واحدة؛ هي إعلاء كلمة الله، وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية، والمعنى الروحي في هذا: اجتماعهم على الصلاة وتسوية صفوفهم فيها أولًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتسونَّ صفوفَكُم أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم»، وهذا شيءٌ لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته للفقه في الدين، والغوص على دُرره، والسمو إلى مداركه”.
و في الختام، فالخروج من دورة الغثائية و الوهن لن يتحقق إلا بالوحدة، و قوة الإسلام أنه جعل توحيد كلمة المسلمين، وجمع قلوبهم على غايةٍ واحدة ..و مستقبل الأمة مقرون بعودتها لخريطة الطريق الربانية التي أخرجت قبل نحو 14 سنة القبائل العربية المتناحرة و المتناثرة من التخلف و الفرقة إلى قيادة الأمم و حمل مشعل الحضارة و نور الهداية لمشارق الغرب و مغاربها، فبالإسلام و نوره و منهجه عرفنا محمد عليه الصلاة و السلام، و عرفنا الصديق و الفاروق و ذو النورين و علي كرم الله وجهه و عمر بن عبد العزيز و محمد الفاتح و غيرهم من العظماء الذين صنعهم الإسلام أولا و أخيرا… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق أسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…