لماذا يخرج التحالف الروسي الصيني الفائز الأكبر من قمة جدة؟

أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، صباح يوم أمس الجمعة، 15 يوليو 2022، عن فتح المجال الجوي السعودي أمام الخطوط الجوية الإسرائيلية.
وقد زف إلينا رئيس الوزراء الإسرائيلي “الأخبار السارة” على حد تعبيره، صباح الجمعة المباركة (على حد تعبيري!)، والتي تأتي “بعد طريق طويل من الدبلوماسية المكثفة والسرية مع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية” مثلما ورد في شريط الأنباء.
وأشار الرئيس بايدن، بكل فخر، إلى أنه أول رئيس يطير من بن غوريون إلى جدة مباشرة، في رمزية لا تخلو من تناقض: فبينما تفتح السعودية المجال لإسرائيل، تغلق الولايات المتحدة الأمريكية والغرب جميع الأجواء أمام روسيا.. أي أن السعودية تفتح المجال الجوي أمام محتل غاصب، وفقا لجميع التعريفات والتصنيفات، بينما يغلق الغرب المجال الجوي أمام دولة تدافع عن نفسها بعملية خاصة، لا احتلال، وتساعد دولتين مستقلتين أعلنتا عن استقلالهما من جانب واحد، بعد أن اعتدت عليهما أوكرانيا زهاء 8 سنوات، وكادت أن تفتك بهما، لولا تدخل الروس، بناء على أسس راسخة من القانون الدولي، وبدعوة مباشرة من هاتين الدولتين المستقلتين من وجهة نظر روسيا. ولم تتحرك روسيا إلا بعد أن أصبح التهديد واضحا وصريحا للأمن القومي الروسي، وهو ما لا يمكن التغاضي عنه مطلقا.
لكن هذا شأن آخر.
عودة إلى فتح المجال الجوي السعودي أمام الطيران الإسرائيلي، فقد سبق هذا القرار التوقيع على “إعلان القدس”، الذي يأتي تعزيزا وتعميقا لأمن إسرائيل، على حساب أي شعوب ودول أخرى، كما يأتي بعد أن لوح العجوز بايدن، بالعصا لا بالجزرة، ضد البرنامج النووي الإيراني، مؤكدا على أن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تسمح “مطلقا” بامتلاك إيران للسلاح النووي، وأنها سوف “تستخدم كل قوتها لمنع إيران” من حيازتها له، بما في ذلك استعدادها “لاستخدام جميع عناصر قوتها الوطنية لضمان ذلك”.
كذلك عبرت الولايات المتحدة الأمريكية عن التزامها بـ “بناء هيكل إقليمي لتعميق علاقات إسرائيل وشركائها ودمجها في المنطقة، وتوسيع المبادرات من أجل سلام أكبر واستقرار أكبر وصلات أكبر”، وهو الأمر الذي تراه واشنطن مهما لجميع شعوب المنطقة.
من جانبه قال الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إن حل الدولتين، على أساس أراضي 67، لا زال متاحا اليوم، إلا أنه قد لا يكون متاحا في المستقبل، في الوقت الذي قال فيه بايدن إن التزامه بتحقيق هدف حل الدولتين لم يتغير، على الرغم من أنه قد يبدو “بعيد المنال بسبب القيود التي تفرض على الفلسطينيين”.
لكنه، وفي الوقت نفسه، لم ينبس ببنت شفه عن الاستيطان، أو عن فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، أو عن رفع منظمة التحرير الفلسطينية من قائمة الإرهاب، وفتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الأمريكية، واشنطن، أو عن أي خطوات عملية فعلية على الأرض للتوصل إلى “هدف حل الدولتين” الذي يسعى إليه. على النقيض من ذلك، حصلت إسرائيل، كالعادة على ضمانات لأمنها وتفوقها العسكري في المنطقة، وحصلت على “إعلان القدس للشراكة الاستراتيجية المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل”، و4 مليارات دولارات (مقابل 500 مليون دولار حسنة سخية للفلسطينيين) كأكبر حزمة مساعدات لإسرائيل في التاريخ، وهو ما يعني مزيد من المباركة للاستيطان والتعدي على الأراضي والممتلكات ومزيد من الاحتلال والقمع والتمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما يعني كذلك المزيد من منح مزيد من الشرعية الأمريكية (لا الدولية!)، لـ “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، إسرائيل، للتصرف كدولة فوق القانون، وفوق هذا وذاك حصلت إسرائيل أيضا على مزيد من الشرعية الأمريكية (لا الدولية) لـ “الاندماج” في المنطقة، بحصول الطيران الإسرائيلي المدني على حق المرور فوق الأجواء السعودية في رحلاته من وإلى آسيا وغيرها. بل حصلت الاتفاقيات الإبراهيمية على آفاق أبعد، مجانا، ودون أن تعيد إسرائيل الأرض مقابل السلام، وحصلت “صفقة القرن” التي كنا قد نسيناها، وعادت تحت مسمى جديد هو “الاندماج”، على أسهم عربية جديدة، في ظل وضع عربي اقتصادي مضطرب، وعلى خلفية عالم يموج بزلازل وتغيرات تكتونية تهدد أوروبا والولايات المتحدة قبل أن تهدد منطقتنا الهشة بالأساس.
منذ يومين، نشر المتحدث الرسمي باسم الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، صورة في حسابه على موقع “تويتر” تتضمن خريطتين للعالم وفوقها تعليق أتصوره جوهر المشكلة في النظام العالمي الراهن: ما الذي تعنيه كلمة “المجتمع الدولي”؟
وفوق الخريطتين كما يتضح في الصورة يظهر التصور الغربي عن “المجتمع الدولي” والمجتمع الدولي الحقيقي للعالم الذي سيصل تعداده مع نهاية العام الحالي إلى 8 مليار نسمة. بمعنى أن ما يقرب من المليار نسمة، يحاولون فرض رؤيتهم وسياساتهم وقوانينهم على الجميع، ويطلقون الأحكام والشعارات والأهداف استنادا لما يسمونه “الشرعية الدولية” التي حتى لا يكلفون عناء أنفسهم لاحترامها في كثير من الأحيان، عندما تتعارض تلك “الشرعية” مع مصالحهم، لتصبح تلك المبادئ والقوانين مطاطة بحسب موقعك في المعادلة السياسية، وبحسب الوقت والظرف والتوازنات في اللحظة التاريخية بعينها.
لهذا السبب خرجت روسيا من مجموعة الدول الصناعية الكبرى الثمان، لتصبح هذه المجموعة G7 بدلا من G8، ببساطة شديدة، وتمهيدا لخروجها من “المنظومة الدولية” و”المجتمع الدولي” ككل (وعلى كل المستويات بما في ذلك رياضيا وثقافيا!)، ولهذا السبب خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني بجرة قلم، ولهذا السبب اختفى من الوجود تعبير “الرباعية الدولية” الخاصة بحل القضية الفلسطينية، ولنفس السبب يأتي بايدن زائرا لمنطقتنا فتفتح الأجواء، ويقرر سيادته أن “تندمج” المنطقة مع المحتل، دون أن يعيد الأراضي التي احتلها منذ 55 عاما، ودون أن ينظر “المجتمع الدولي” و”الشرعية الدولية” بعين الاعتبار إلى الشعب الفلسطيني الذي عانى من النكبة والتشرد والاحتلال لـ 74 عاما، بل، وعلى العكس، يباركون ويدعمون المحتل ويمنحونه من الوقت يوما ويمنحوننا ساعة أو بضع ساعة، ليقرروا لنا ما علينا أن نفعله كي “نرضي” المحتل، الذي يوهمنا بأن “الخطر الإيراني” يحتم علينا كمنطقة أن نتحد ضده، وننسى احتلال أراضينا، واغتصاب ممتلكاتنا، وطرد أهالينا، بل ويرغمنا على نسيان تاريخنا ولاجئينا وماضينا. بهذه البساطة يأتي السيد الأمريكي المتأنق فيمنّ علينا ببعض الكلمات عن “حل الدولتين” و”إعادة نشاط الأونروا” وينثر علينا “500 مليون دولار”، ونحن ممتنون بالقطع لهذا السخاء، ثم يقول لنا: فلننتظر غدا آخر، انتظرتم 74 عاما، فما يضير أن تنتظروا قرنا آخر.
لكن العالم اليوم لم يعد نفس العالم الذي صال فيه وجال بايدن نائبا لباراك أوباما، وعالم ما بعد العملية العسكرية الروسية الخاصة، لم يعد كعالم ما قبلها، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، هو من وضع فعليا ذلك الخط الفاصل بين هذا وذاك، أو على أقل تقدير هو من ألقى حجرا كبيرا في المياه الراكدة، ليطرح العالم أجمع، وليس “المجتمع الدولي من وجهة نظر الغرب” وحده، أسئلته الملحة والجوهرية والتاريخية والوجودية، لتسأل جميع دول العالم، ومنها منطقتنا الغنية والبائسة في آن واحد، نفسها حول موقعها من الجغرافيا ومن التاريخ ومن الفعل السياسي القادر على تغيير وجه المنطقة والعالم.
وليس سؤال المتحدث باسم الخارجية الصينية ببعيد عما حدث في اجتماع وزراء الخارجية لمجموعة الدول العشرين، حينما التقى الوزير الروسي، سيرغي لافروف، بوزراء خارجية العالم “الصديق”، الذي تقيم معه روسيا علاقات ود وتبادل مصالح وهم ببساطة الحساب (20-7=13) ثلاثة عشرة دولة من العشرين، دون أن يلتقي بأولئك الذين يطلقون الرصاص على أقدامهم وعلى الاقتصاد العالمي، ممن يظنون بذلك أنهم “يعزلون” روسيا، تماما كما يريدون الآن أن “يعزلوا” إيران وسوريا وكل من تسول له نفسه أن يكون له رأي مستقل، وأن يمارس سياسة تختلف عن الخط الذي ترسمه “هيمنة” القطب الواحد، الذي يسقط أمام أعيننا، بينما تصل معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، وتبدأ الشعوب في مسائلة النخب السياسية حول ما يفعلونه في واقع الأمر بأوكرانيا، وما فعلوه على الأرض في أوروبا، بل ولتتسع الأسئلة لتشمل ما فعله الأمريكيون بيوغوسلافيا وأفغانستان وليبيا والقائمة لا تنتهي، وصولا إلى انقلاب 2014 في أوكرانيا.
في تقديري، واستنادا إلى البيان الصادر عن قمة جدة، فإن واشنطن لم تتمكن، فيما يبدو حتى الآن، من تحقيق أي نتائج كانت تسعى إليها، وأعتقد وأتمنى أن هناك وزن عربي فارق في سبيله إلى الظهور في المنطقة، التي لم تعد تصدق الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة نحن الفلسطينيون بالذات. فليقل السيد بايدن ما يشاء من معسول الكلام. أظن أن السعوديين الآن، ومعهم المنطقة، سيعيدون التفكير في مصالحهم قبل أي شيء، وهي المصالح التي أصبحت تتوازن شيئا فشيئا مع الصين وروسيا وبقية العالم.. العالم الحقيقي، وليس “العالم الغربي الحر” وفقا لخريطة تشاو ليغيان. فالعالم أوسع بكثير من الكهل بايدن، الذي يمثل الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود الغرب، ولا تقود العالم، وتعيش أوهام الغطرسة والقوة والهيمنة في وقت تبزغ فيه شمس عالم جديد حر ومتعدد الأقطاب، واقتصاد حقيقي لا يقوم على طباعة دولارات غير مغطاة بكبسة زر. (يكفي فقط أن نتصور أن الولايات المتحدة الأمريكية، أثناء وباء كورونا، طبعت 40% من إجمالي حجم الدولارات الصادرة منذ اختراع عملة الدولار)! وإنما يقوم على بضائع حقيقية وإنتاج حقيقي وسواعد بشرية حول العالم تجتمع من أجل مصلحة البشرية لا مصلحة “دولة عظمى” وحيدة، تأفل شمسها، كما يأفل عمر صاحبنا بايدن، عافاه الله وأطال في عمره، لكن الزمن يتحرك في اتجاه واحد فقط، ومن يعانده أو يتصور أن بإمكانه إيقافه واهم أو مجنون أو أحمق أو جميعهم. فهل يعقل بعد ذلك أن تظل هذه الدولة “المخرفة” مسيطرة على مصير البشرية؟!
أترك لكم الإجابة!
كاتب ومحلل سياسي