كشفت وثائق بريطانية، سمح بنشرها، كيف نشأت العلاقة بين حكومة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وشيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي.
ووفق الوثائق التي حصلت عليها “بي بي سي” بمقتضى قانون حرية المعلومات، فإن لندن سعت لاستغلال الأزهر في تحسين صورتها ودعم عملية سلام الشرق الأوسط.
كما تكشف كيف أن مخططي السياسات في بريطانيا حرصوا على “إظهار الاحترام” لمؤسسة الأزهر كأحد وسائل تحقيق هدفيها.
وبعد أيام قليلة من تولى بلير رئاسة الحكومة في 1997، دعا كبير أساقفة كانتبيري جورج كاري، الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، لزيارة بريطانيا رسميا في إطار مشروع حوار الأديان. وصنفت الحكومة البريطانية الضيف والزيارة الرسمية، ضمن الفئة الأولى.
وعندما تقرر وقت الزيارة بين يومي 19 و 23 أيار/ مايو 1997، كتب دومينيك تشيلكوت السكرتير الخاص لوزير الخارجية، برقية إلى فيليب بارتون، السكرتير الخاص لرئيس الوزراء، عن أهمية استغلال وجود شيخ الأزهر في لندن لتحسين صورة بريطانيا في العالم الإسلامي كله.
وصف بارتون في برقيته، التي لم يطلع عليها سوى عدد ضئيل من كبار المسؤولين والمستشارين البريطانيين، شيخ الأزهر بأنه “أرفع الشيوخ وأكثرهم احتراما في العالم الإسلامي”. وهذا يجعل من وجهة نظر الدبلوماسية البريطانية، لقاء بلير بالشيخ طنطاوي “ولو لالتقاط صورة” أمرا مهما.
وكشفت البرقية عن “حرص” نظام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك على ترتيب هذا اللقاء، رغم العلم بانشغال بلير البالغ بالقضايا الداخلية في تلك الفترة.
وقال تشيلكوت: “التأثير الإعلامي للزيارة في العالم الإسلامي سيتعزز بشكل هائل لو تمكن رئيس الوزراء من تدبير دقائق قليلة لالتقاط صورة في لقاء سريع مع الشيخ”.
المعوق الوحيد لنجاح اللقاء كان موقف الأزهر في تلك الفترة من القضية الفلسطينية، وهي مواقف أثارت انتقادات أنصار إسرائيل في بريطانيا، ما جعل البريطانيين يتحسبون لرد فعل هؤلاء على استقبال بلير للشيخ طنطاوي، خاصة في ظل انشغال الإدارة الجديدة، في لندن، بترتيب أوضاعها.
إلا أن الوثائق تكشف أن تقييم وزارة الخارجية انتهى إلى أن المصلحة المتحققة من مثل هذا الاهتمام بزيارة شيخ الأزهر تفوق أي رد فعل سلبي يمكن توقعه حتى من جانب أنصار إسرائيل في بريطانيا.
اقرأ أيضا:
معد تقرير “العمال”: معاداة السود والمسلمين بالحزب لا تعامل بجدية معاداة الساميةوقال سكرتير الوزير: “الجانب السلبي المحتمل الوحيد هو أن الشيخ قد أصدر في الماضي بعض البيانات الحادة اللهجة عن الاحتلال الإسرائيلي للقدس. وهناك فرصة ضئيلة لأن يستعيد اللوبي الموالي لإسرائيل مثل هذه البيانات. غير أننا لا نعتقد أن هذه مجازفة جسيمة”.
وخلصت الدبلوماسية البريطانية إلى أن “المنفعة المتحققة في العالمين العربي والإسلامي تتجاوز هذه المجازفة إلى حد بعيد”.
لم تكن الخارجية وحدها الداعية بقوة للقاء بلير وطنطاوي.
تكشف الوثائق أن بارتون، سكرتير بلير، استشار الدائرة المقربة من رئيس الوزراء الجديد، ومن بينهم ألستر كامبل والبارونة سالي مورغان، مستشارا بلير لشؤون الاتصالات، بشأن توصية وزارة الخارجية. ونصح الاثنان بأن هذا اللقاء السريع بشيخ الأزهر سيحمل أبعادا سياسية داخل المملكة المتحدة من شأنها تقوية العلاقة بين الحكومة والمسلمين.
وفي توصيته إلى بلير، قال بارتون: “سالي وألستر حريصان على أن ترى الشيخ لأن هذا سوف يكون له أثر جيد على العلاقة مع المجتمع المسلم هنا، وكذا في العالم المسلم عموما. لذا، فإننا دعوناه من أجل التقاط صورة في الساعة الـ6:10 مساء غد”.
تبع بلير النصيحة. والتقى رغم انشغالاته الضاغطة، لمدة 5 دقائق بالشيخ طنطاوي يوم 20 أيار/ مايو 1997.
وبعد اللقاء، كتب بارتون إلى تشيلكوت يبلغه بأن “اللقاء السريع قد تم بناء على نصيحة الخارجية، مشيرا إلى استخدام نظام مبارك للشيخ في توجيه رسالة سياسية إلى حكومة بلير”.
وأوجز بارتون ما دار في اللقاء قائلا: “انتهز الشيخ الفرصة لتهنئة رئيس الوزراء بنتائج الانتخابات. وقال رئيس الوزراء إنه تشرف بأن يلتقي بالشيخ، وتمنى له إقامة سعيدة في بريطانيا. وعبر الشيخ عن أمله في أن تتحسن العلاقات بين بريطانيا ومصر تحت قيادة رئيس الوزراء، ثم أهدى رئيس الوزراء كتابا عن الأزهر في صندوق مزين بنقوش”.
وذيَّل السكرتير الشخصي لبلير موجزه بالتعليق الآتي: “بدا الشيخ سعيدا حقا بأن رئيس الوزراء وجد وقتا وكلف نفسه عناء استقباله”.
بعد قرابة العام، دعُي رئيس الوزراء البريطاني إلى زيارة مصر رسميا.
ورغم جدول الزيارة المكتظ باللقاءات والمناسبات، خاصة الاقتصادية، فقد أصر مستشارو بلير على ضرورة أن يزور الأزهر ليلتقي بشيخه.
وتمت زيارة بلير لمصر يومي 17و 18 نيسان/ أبريل عام 1998، ضمن جولة كانت هي الأولى له إلى الشرق الأوسط.
وفي تقرير معلوماتي عن الشيخ، قُدم إلى مكتب بلير، وصفت الخارجية البريطانية تعيين طنطاوي شيخا للأزهر، الذي كان سابقا مفتيا لمصر، بأنه “لقي ترحيبا من جانب المسلمين المعتدلين”.
وعن أدائه في دار الإفتاء، قالت الخارجية البريطانية: “كان يساير سياسة الحكومة في قضايا مثل الحد من المواليد”. غير أنها أشارت إلى أنه “أبدى بعض الاستقلال في معارضة ضريبة الأيلولة (الميراث) عام 1989”.
وأبدى تقرير الخارجية البريطانية اهتماما بفتوى طنطاوي، التي حلل فيها فوائد البنوك في شهر أيلول/ سبتمبر عام 1989. وجاء في التقرير أن “الجماعات الإسلامية رأت أن الفتوى صدرت بإيعاز من الحكومة”.
وأشار إلى أنها “أثارت جدلا واسعا”. وقالت الخارجية إن “طبيعة (الفتوى) الليبرالية واجهت معارضة من جانب (هيئة كبار) علماء الأزهر، الأكثر محافظة بمن فيهم شيخ الأزهر في ذلك الوقت”، في إشارة إلى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق.
وفي تبريره للإصرار على زيارة بلير للأزهر، قال فريق إعداد الزيارة إن “الاجتماع مع شيخ الأزهر الأكبر، الذي ينظر إليه غالبا على أنه أكبر شيخ في العالم السني، وقوة للاعتدال، يستهدف إظهار احترامنا للإسلام، واهتمامنا بالحوار بين الثقافات”.
ووفق المراسلات السرية البريطانية، فإن “مستشاري بلير سعوا إلى إعطاء المسلمين انطباعا بأن بريطانيا على وفاق مع الأزهر، ما قد يفيد في استغلال سمعة المؤسسة العريقة في إقناع عوام المسلمين بأن مشروع تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي لا يخالف الإسلام”.
وتشير الوثائق إلى أن طنطاوي أكد لبلير رفض الإسلام للظلم والإرهاب والاستيلاء على أراضي الآخرين.
وبحسب محضر اللقاء، الذي كتبه سكرتير بلير الشخصي، فإن شيخ الأزهر أكد أن “الإسلام يدعو إلى العدالة والحقوق للجميع، ويعارض الظلم والإرهاب والاستيلاء على الأرض وبناء مستوطنات عليها. وأن الإسلام يقف دائما مع المقهورين الذين لا يحصلون على حقوقهم كاملة”.
أما بلير، فقد تجنب الرد على كلام شيخ الأزهر. وركز، وفق محضر اللقاء، على الحوار بين الأديان، وخاصة بين الأزهر وكنيسة إنجلترا. وقال: “التفاهم الأكبر بين الأديان يؤدي إلى تفاهم أكبر بين الشعوب”.
وفي تعليقه على اللقاء، قال سكرتير بلير إن شيخ الأزهر “لم يبذل أي محاولة لطرح موضوعات مثيرة للجدل، باستثناء إشارة سريعة إلى الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية”.
وكشف بلير بعد عودته من زيارته للقاهرة عن اعتقاده بأهمية الأزهر في محاولته إقناع كبير أساقفة كانتبري بأن يُعجل بزيارة مصر، تلبية لدعوة أبلغه الشيخُ طنطاوي بأنه وجهها للأسقف، وينتظر تلبيتها.
فقد بعث بلير بخطاب رسمي إلى كاري يتحدث فيه عن الدعوة وتأييده الشخصي للحوار الذي قال شيخ الأزهر إنه يباشره مع كبير الأساقفة وغيره.
وعن لقائه مع طنطاوي، قال بلير لكبير الأساقفة: “كان لنا نقاش مثير جدا عن الدين وطبيعة الإسلام”.
وتعبيرا عن الأهمية واهتمام حكومته بتلبية كاري لدعوة طنطاوي، كتب بلير بخط يده على الخطاب يقول: “أعتقد أن لقاء دينيا كهذا سيكون مساعدا للغاية لعملية السلام في الشرق الأوسط”. وأبدى بلير حرصا على النقاش مع كبير الأساقفة في هذا الموضوع. وقال له: “إن أردت التحدث بالتفصيل عن ذلك، فلك أن تتصل بي”.
ومنذ ذلك الوقت، لم تتوقف لقاءات السياسيين البريطانيين مع شيخ الأزهر، طوال فترة رئاسة بلير للحكومة البريطانية.