زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن المنطقة؛ لتوجيه رسالة إلى الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، مفادها معارضة أمريكا لأي “إجراءات استفزازية” بحق الفلسطينيين، فكيف يعلن رد تل أبيب التوسع في المستوطنات وفاة أي “تأثير” لواشنطن في القضية الأهم في الشرق الأوسط؟
فقبل أن تكمل حكومة إسرائيل، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية إيتمار بن غفير، شهرها الأول، اقتربت الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة جو بايدن بإرسال بلينكن إلى المنطقة لاحتواء الموقف.
وكانت صحيفة The New York Times الأمريكية قد نشرت تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، ووضع الحكومة الإسرائيلية الجديدة الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة منذ نيلها ثقة الكنيست الذي يسيطر عليه اليمين واليمين المتطرف، في ديسمبر/كانون الأول 2022.
حكومة نتنياهو تتحدى إدارة بايدن
زار بلينكن إسرائيل والتقى نتنياهو وأعلن عن “ضرورة عدم اتخاذ تل أبيب أي إجراءات من شأنها التأثير على حل الدولتين”، وتحدث تحديداً عن ضرورة وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
غادر بلينكن، وبعد أقل من أسبوعين، أعلنت حكومة نتنياهو منح تصريحات بأثر رجعي لبؤر استيطانية يهودية في الضفة الغربية المحتلة والتصريح ببناء 10 وحدة استيطانية جديدة، فكيف ردت واشنطن؟
أصدر بلينكن بياناً باسمه عبر فيه عن رفضه لقرار تل أبيب، مضيفاً أنه “منزعج بشدة” من هذه الخطوة: “نعارض بشدة مثل هذه الإجراءات أحادية الجانب التي تؤدي إلى تفاقم التوتر وتقوض آفاق التوصل إلى حل الدولتين عبر المفاوضات”، وجدد دعوته “جميع الأطراف” إلى تجنب الأعمال التي من شأنها زيادة تصعيد التوتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
جاءت خطوة إسرائيل، الأحد 12 فبراير/شباط، حيث منحت الحكومة التصريح لتسع بؤر استيطانية يهودية في الضفة الغربية المحتلة، وأعلنت بناء منازل جديدة داخل المستوطنات القائمة.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس إن بلينكن أبدى معارضته لمنح التصريح للبؤر الاستيطانية خلال الزيارة إلى إسرائيل والضفة الغربية التي اختتمها في 31 يناير/كانون الثاني.
ورداً على سؤال عما ستفعله الولايات المتحدة حيال تحرك إسرائيل بالمضي قدماً في التصريحات، لم يحدد برايس أي إجراء. وقال برايس: “إسرائيل بالطبع ستتخذ قراراتها السيادية. لقد أبدينا رأينا.. ورأينا القوي جداً بشأن هذا واضح للغاية”. وأضاف أن المسؤولين الأمريكيين يجرون “مناقشات مكثفة” مع إسرائيل والفلسطينيين ودول أخرى في المنطقة، وأن الجهود الأمريكية لتهدئة التوتر ستستمر.
لكن مسؤولاً إسرائيلياً، طلب عدم نشر اسمه، قال لرويترز إن إسرائيل لم تتفاجأ من الرد الأمريكي؛ لأن الجانبين مختلفان بشأن هذه القضية منذ عقود، وأضاف المسؤول: “هذه الخلافات لم ولن تضر بالتحالف القوي بين إسرائيل والولايات المتحدة”.
ويقيم نحو 475 ألف مستوطن إسرائيلي في بؤر استيطانية لا يعترف بها القانون الدولي بالضفة الغربية المحتلة، وسط أكثر من 2,8 مليون فلسطيني. وتأتي هذه الخطوة الاستفزازية وغير القانونية في سياق تصاعد عنف الاحتلال والمستوطنين ضد الفلسطينيين. ومنذ بداية العام الجاري، استشهد 47 فلسطينياً، بينهم مقاومون ومدنيون بعضهم أطفال، برصاص جيش الاحتلال والمستوطنين، بينما قتل 9 إسرائيليين، وفق تعداد لوكالة الأنباء الفرنسية يستند إلى مصادر رسمية فلسطينية وإسرائيلية.
هل “انتهى” التأثير الأمريكي في المنطقة؟
مجلة The National Interest الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه “وفاة الدبلوماسية الأمريكية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”، رصد كيف أن التطور الأهم خلال الرحلة الأخيرة لبلينكن إلى إسرائيل والضفة الغربية المحتلة لم يكن له علاقة بزيارته، وكيف أن اقتراحات الوزير الهادفة إلى نزع فتيل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين تشير إلى التقلص السريع للبصمة الدبلوماسية الأمريكية على ما كان لسنوات عديدة مكوناً أساسياً في سياسة الولايات المتحدة في المنطقة.
فلأكثر من نصف قرن، وبغض النظر عن توجه الحكومة الإسرائيلية التي جاءت للسلطة -يسارية أم يمينية أم مركزية- زاد عدد المستوطنات الإسرائيلية وسكانها. وفي الصراع المستمر بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين، يمثل عدد المستوطنات الإسرائيلية وسكانها المؤشر الأبرز على تقلص كل من فرص إقامة دولة فلسطينية من جهة، وعلى مدى زيف شعار “الديمقراطية الإسرائيلية”.
تقرير سجل السكان، الذي تصدره وزارة الداخلية الإسرائيلية، يشير إلى أنَّ عدد المستوطنين الإسرائيليين قد ارتفع إلى أكثر من 500000 في الضفة الغربية نفسها وأكثر من 200000 في مستوطنات القدس الشرقية، وكلتاهما أراض فلسطينية تحت الاحتلال.
وتصور وثيقة الوزارة مشروعاً استيطانياً ينمو باستمرار في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة. وهذا يشمل المستوطنات في مناطق القدس الشرقية، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 200000 نسمة، وحلقة المناطق الاستيطانية الكبيرة حول القدس، التي تضم ما يسمى بـ “القدس الكبرى”. وتشمل الزيادة السكانية المستوطنات في وادي الأردن ذي الكثافة السكانية المنخفضة وكذلك تلك الموجودة في الضفة الغربية.
بالإضافة إلى نمو هذه المستوطنات الرسمية المصرح بها، فإنَّ ما تُسمَى بالمستوطنات غير القانونية والبؤر الاستيطانية التي تأسست في البداية دون موافقة حكومية رسمية على مدار الأعوام الـ25 الماضية تستمر في الزيادة من حيث العدد والسكان.
ولا يجب الاستهانة بأنَّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قد التزمت بتفكيك هذه البؤر الاستيطانية دون تأثير عملي. وفي الواقع، توقفت الإدارات الأمريكية منذ فترة طويلة عن سؤال إسرائيل -ناهيك عن مطالبتها- بالوفاء بهذه الالتزامات التي تعهدت بها لواشنطن.
على مدى نصف القرن الماضي، كانت هناك عقبة واحدة ذات مغزى (وإن كانت عابرة) أمام زيادة عدد سكان المستوطنات الإسرائيلية؛ وهي المقاومة الفلسطينية الشرسة خلال الانتفاضة الثانية عامي 2000 و2005.
وهنا تدخلت واشنطن وعقدت مؤتمراً للسلام في الشرق الأوسط، بعد أن تسببت الانتفاضة الفلسطينية في تقليل الزيادة السنوية في عدد سكان المستوطنات ولو بشكل مؤقت. وكانت الدبلوماسية، التي رعتها الولايات المتحدة، قد بدأت من “محادثات الحكم الذاتي” عام 1977 واستمرت طوال عملية أوسلو المحتضرة الطويلة التي بدأت في عام 1992.
لكن تلك “الدبلوماسية” فشلت في تقييد زيادة المستوطنات، بل يمكن القول إنها سهّلتها. وفي الواقع، لا يمكن لأي تقييم موضوعي لهذه الحقبة إلا أن يخلُص إلى أنَّ أحد الأهداف الرئيسية للعمليات الدبلوماسية للجيل الأخير كان الزيادة غير العادية في المستوطنات والمستوطنين، بحسب تحليل المجلة الأمريكية.
ولا تزال المشاركة الحالية لإدارة بايدن في فلسطين قائمة على افتراض أنَّ الأجهزة الأمنية الفلسطينية يجب أن تسلم البضائع إلى إسرائيل، وتحمي مستوطنينها وجنودها، دون أي احتمال للمكافأة الأساسية التي طالما انتظرها الفلسطينيون؛ وهي: الاستقلال، والسيادة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي المحتل والمستوطنين إلى الحدود المُعترَف بها دولياً.
إذا كانت اتفاقيات أوسلو -على أفضل تقدير لها- تشير إلى مثل هذه النتيجة، فقد كان واضحاً منذ عملية “السور الواقي” في أبريل/نيسان 2002 أنه لا يوجد أي احتمال حقيقي لأي تراجع أمني أو استيطاني إسرائيلي كبير من الضفة الغربية المحتلة، وأنَّ الجهود الدبلوماسية التي تقودها الولايات المتحدة بهدف مواجهة هذا الواقع وتحويل الاحتلال إلى استقلال وسيادة قد فشلت.
كيف أعلنت أمريكا استسلامها لإسرائيل؟
استسلمت الولايات المتحدة، بما في ذلك الإدارة الحالية، منذ فترة طويلة للزيادة المطردة في المستوطنات الإسرائيلية. ولم تُبذَل أية جهود دبلوماسية جادة بين الطرفين منذ إدارة جورج دبليو بوش، وقد مر أكثر من عقد منذ نظر الأمريكيون حتى في الجهود الدبلوماسية لتجميد نمو المستوطنات، ناهيك عن اتخاذ إجراءات عقابية بحق تل أبيب لتفكيك تلك المستوطنات.
وفي ظل غياب مثل هذا “الأفق الدبلوماسي” القائم على إنشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، توصل بعض الدبلوماسيين إلى سلسلة من الحلول السريعة في محاولة للحفاظ على خيال التقدم الدبلوماسي وانخراط الولايات المتحدة في القضية الأهم للمنطقة.
وفي أحسن الأحوال، تعالج هذه الجهود الأعراض الأقل استحساناً لاستمرار الاحتلال -لا سيما معارضة الفلسطينيين لسياسات الأمر الواقع الإسرائيلية على الأرض- بدلاً من مواجهة القضية، التي يكمن في جوهرها ممارسات إسرائيل منذ فترة طويلة بهدف خلق “حقائق على الأرض”.
لذلك، تركز المشاركة الأمريكية الآن، على سبيل المثال، على خطة أمنية أخرى في الضفة الغربية، التي تهدف، مرة أخرى، إلى فعل المستحيل المتمثل في حشد الدعم الشعبي الفلسطيني للمؤسسات، سواء الأمنية أو غيرها، التي فشلت فشلاً مؤسفاً في حماية الفلسطينيين وإرثهم السياسي؛ مما يعتبرونه تهديداً سياسياً واقتصادياً كبيراً، وشخصياً في كثير من الأحيان الناجم عن المستوطنين والمستوطنات.
على صعيد دبلوماسي آخر، أفادت صحيفة Haaretz بأنَّ القادة في أوروبا والولايات المتحدة يسعون واحداً تلو الآخر للخروج من موقف حرج بالإعراب عن قلقهم بشأن خطة الحكومة الإسرائيلية الجديدة لإضعاف النظام القضائي. وتراجع هؤلاء القادة عمّا اعتبروه سابقاً تدخلاً إشكالياً في الشؤون الداخلية الإسرائيلية، وصاروا يعلنون الآن صراحةً عن خوفهم من فقدان المبادئ الديمقراطية الأساسية إذا نفذت حكومة نتنياهو خطتها المقترحة للإصلاحات القضائية.
ونقلت صحيفة Haaretz انتقاد بلينكن الخطة القضائية علانيةً بأسلوب مهذب في نهاية لقائه مع نتنياهو. وكانت رئيسة البرلمان الأوروبي، روبرتا ميتسولا، قد سبقته عندما استضافت الرئيس إسحاق هرتسوغ في أواخر يناير/كانون الثاني، وقالت إنها تحدثت معه “حول التطورات الدستورية في إسرائيل”، وأكدت أنَّ “الاتحاد الأوروبي وإسرائيل مرتبطان بصداقات قوية على أساس القيم المشتركة، بما في ذلك الديمقراطية وسيادة القانون”. ويمكن افتراض أنَّ الموضوع سيبقى على جدول الأعمال. ومن المرجح أن يسمع نتنياهو انتقادات مماثلة خلال كل زيارة في المستقبل القريب للبيت الأبيض أو العواصم الأوروبية الكبرى.
الخلاصة هنا هي أن الولايات المتحدة قد فقدت أي تأثير يذكر لها على حليفتها إسرائيل، وفي ظل إصرار الحكومة المتطرفة على استرضاء المستوطنين على حساب الفلسطينيين، يصبح السؤال المنطقي هنا: وماذا بعد؟