ما الذي جرى وكيف ذلك؟ هل حزب الله نمر من ورق؟ تعالوا نتحاسب قبل أن نغرق جميعا!

هذه الكلمات مكتوبةٌ بمزيج من الغضب والحزن والذهول، ربما العتاب مع رغبة في الصراخ  وربما مزيج من شراب النار مع بعض قطع الثلج، لا يمكن البدء إلا بتعزية لبنان وشعب لبنان وكل أحرار هذا العالم بالشهداء في لبنان وبالشهيد الكبير وبالمصاب الكبير، لقد كان الشهيد العظيم علامةً فارقة في الصراع مع الصهاينة لمرحلة كاملة من عمر لبنان والمنطقة العربية ومن الصعب إيجاز تأثيراته وحضوره ومكانته في بضعة سطور.

في بعض الأحيان وعقب حدوث الصدمة يضطر العقل للذهاب إلى المنحى البوليسي الذي لم يكتشف أي دليل حول الجريمة فيضطر للرجوع إلى كاميرا مراقبة الأحداث طيلة الأسبوعين الماضيين واسترجاع شريط التسجيل مرة تلو المرة حتى يقفز عن الطاولة صائحا: نعم هذا هو ما لم ننتبه له!
كنت أتابع مساء الجمعة مثلكم جميعا أخبار عملية القصف على مقر حزب الله ، عقب نقل التفاصيل ربما بساعة يأتينا خبرٌ عاجلٌ بأن جيش العدو يُصرِح بأن حسن نصر الله ربما أصيب، بعد ذلك بساعتين يتكرر خبر عاجل بأن الجيش الصهيوني يمتلك تأكيدات بإصابة الرجل ، حقيقة لم أتمكن من فهم واستيعاب هذا السياق إلا وكأن أحدهم يبث لجيش الاحتلال نواتج الغارة أولا بأول حتى قبل أن يعرف بها أعضاء حزب الله أنفسهم .

منذ بداية هذه السلسلة من الأحداث ضد الحزب كانت عملية اغتيال القيادي فؤاد شكر هي فاتحة الخسائر الثقيلة التي ظننا أنها تقع ضمن السياق التقليدي من سباق القتل والاغتيال الذي يقوم به العدو الصهيوني ، تلا ذلك عملية البيجر التي كانت ضربة استخبارية وعسكرية متقدمة ومؤلمة جدا حيدت ربما 5% من قوى الحزب، تتابعت سلسلة المفاجآت باغتيال القياديين ابراهيم عقيل وأحمد وهبي، ثم تفاجأنا بعدها باغتيال ابراهيم قبيسي ثم محمد حسين سرور، وانتهى الأمر بالضربة الأكبر باغتيال الشهيد حسن نصر الله والقتل  مستمر دون حسيب ولا رقيب، كل هذه الأسماء بمجموعها تمثل الثقل القيادي الأكبر والفاعل في قيادة الحزب وأدواته التنفيذية وكل منهم له أهميته ووزنه الذي لا يمكن الاستهانة به وليس من الصحيح أنه يمكن تعويضه بالسرعة الموصوفة، في الحقيقة أن التسليم بذكاء وقوة اختراق الكيان الصهيوني والايمان بأن يده الطولى هي وراء عمليات الاغتيال هذه  لايعد إلا نوعا من العمى العقلي والمعنوي، إن حزب الله وهيكله التنظيمي والإداري لا يستهان به على الإطلاق، ويعلم جيدا حجم التحديات وخطورة موضعه وخطورة العدو الذي يواجهه، ومن الغباء التفكير بغير ذلك، إن هذا السياق يؤكد بأن هذه القيادات جرى تسليمها  تسليم اليد إلى الذراع العسكرية الاسرائيلية وجبة واحدة في أقل من أسبوعين وليس من تفسير عقلاني غير ذلك!
في عُرف السياسة العالمية التي نعاصرها حولت الولايات المتحدة هذه إلى بلطجة ومكائد ومؤامرات وتحالفات سريعة التقلب والتلون ولا توصف بأقل من كونها لاأخلاقية ، ضمن هذه السياسة تتمتع كل شخصية سياسية أو عامة  وازنة بهالة من الخطوط الحمراء المتفق عليها ضمنا والتي تمثل حماية ووقاية لهذه الشخصية من أطراف وقوى كبيرة تحفظ اتزاناتها مع هذه الرموز ، المجرم نتانياهو كمثال هو موظف كبير في النظام العالمي الجديد يتمتع بهامش واسع من الخطوط الحمراء التي تغطي على جرائمه وتحميه وتوفر له مظلة العمل بكل راحة ، بمجرد الانتهاء من دوره أو حدوث خطأ ما أو عقد اتفاقيات جديدة تتلاشى هذه الهوامش  تلقائيا ويباح دمه ومكانه ،  ويمكن تركه فريسة سريعة وسهلة واغتياله في ظرف ساعة ، نفس هذا السيناريو تماما ومؤكدا هو ما حصل مع قيادات حزب الله بشكل أو بآخر.
عبر التاريخ السياسي المعاصر للبنان كانت هنالك اغتيالات كبيرة شكلت مفترقات طرق داخل لبنان ، هذه الاغتيالات تسمى الاغتيالات الهندسية التي تتم وفقا لتفاهمات كبرى ترفع مظلة الحماية عن الوكيل او المندوب ومن خلال تصفيته يتم الإعلان عن الانتقال إلى منحدرات جديدة للبلاد ، كان اغتيال بشير الجميل احدها واغتيال كمال جنبلاط ثانيها واغتيال رفيق الحريري ثالثها ، واليوم يأتي اغتيال الشهيد  نصر الله  ليكون أكبر عملية اغتيال فارقة في تاريخ لبنان ويفتح باب المجهول ويعيد ترتيب البورصة السياسية المفككة والمتنافسة دون نزاهة  لمن يتمتع بقوة أكبر أو يدفع أكثر او ربما يقتل أكثر، لكن السؤال هنا : من الذي رفع خطوط الوقاية عن الشهداء في هذا التوقيت ؟ انتبهوا جيدا  إن الإجابة تقع في الولايات المتحدة وليس ايران !
على الرغم من أن مركز الحدث السـاخن هو لبنان  إلا أن كل الأنظار تتجه اليوم نحو ايران وكأن كل الخيوط تلتقي عندها ، هنالك أسئلة حرجة نبتت من دماء الشهداء في لبنان وبسرعة واخزة ، أسئلة أشبه بالبيجرات المتفجرة  تحولت إلى مادة إعلامية وفكرة اكتشافية يتداولها الجميع وكأنهم عثروا على المتهم الرئيس في الانكشاف الكارثي لقيادات حزب الله واغتيالها ، هنالك سؤال واحد أساسي يمكنه حل كل الأسئلة العالقة والمؤرقة للضمير : ما الذي سيحدث إذا نجح العدو في اجتياح لبنان والتمكن فعلا من إضعاف حزب الله عسكريا وسياسيا ؟
 الإجابة الحتمية على ذلك يقدمها لكم السنيور أفعى ذات الجرس جاريد كوشنر الأملس إياه ، حيث صرح في مقالة له قبل يومين بأن طريق الإطاحة بايران يمر عبر اجتياح لبنان والقضاء على حزب الله ، حتى أنه ذهب إلى اتهام نتانياهو بارتكاب خطا استراتيجي بعدم اقتحامه للبنان عقب اغتيال الشهيد نصر الله !
إن ايران في حكم الضربة الصهيو-أمريكية اليوم أكثر من أي وقت مضى ، وسواءا تم غمز ايران من الديموقراطيين وكامالا هاريس باتفاقية نووية جديدة وتخفيف الحصار المطبق عليها  أم لم تغمز فإن جدول الهجمة عليها قادم لا محالة ولن ينجيها أي نوع من الاتفاقيات أو الصفقات كما يروج بعض الإعلاميين العرب والذين شربوا وتبنوا هذه الفرضية وهذه الشكوك ، إن كل هذه العاصفة التي قامت ولم تقعد حول تخلي ايران عن حزب الله هي قطعا  فيروس اسرائيلي توكلت به الوحدة 8200 التي تذكرونها ليل نهار لكن أحدا لا يتفكر بحضورها الفعلي داخلنا وداخل أفكارنا ، كيف يمكن لإيران أن تفرط بأكبر خط دفاعي لأمنها القومي ؟ كيف يمكن لإيران أن تضحي بعنصر قوة ومؤازرة ودعم ذي ثقل كبير جدا في الإقليم ؟ كيف يمكن أن تتوافق ايران في لحظة وضحاها مع عدوها الذي تحاربه عقائديا ووجوديا منذ الثورة الإسلامية في ايران ؟ وبهذه المناسبة فليكن بعلم الجميع بأن رحيل الشهيد نصر الله قد وضع ايران في حرج أشد أمام مواجهة شبه حتمية سواءا كانت ترغب بذلك أم لا ، لقد خسرت ايران رئيسا لها وقائمة طويلة من العساكر والعلماء الذين لا يمكن التسامح بهدر دمائهم ، وأرجو الإشارة هنا أنني لا ادافع عن أحد بقدر ما أحاول إعادتكم إلى العقلانية في التفكير وعدم الانجرار وراء تصريحات ظريفي أو أداء الرئاسة الايرانية .
إن أفضل عملية اغتيال يمكن للكيان الصهيوني أن يحققها هي نقل المعركة إلى الداخل الوجداني الحاضن معنويا لمحور المقاومة وإحداث دعاية صدعية قاصمة داخل محور المقاومة وجمهوره العربي والإسلامي بالتشكيك في مصداقية الوفاء والرباط الأخلاقي بين ايران وكل أطراف المحور وتصوير هذه على أنها مجرد ألوية عسكرية خاصة بايران وتعمل ضد أجندة بلادها ، هذا هو دور ووظيفة الوحدة 8200 والتي اذا نجحت في هذه العملية فستكون قد تفوقت على عملية اغتيال الشهيد الكبير،  إن سلسلة الاغتيالات التي قامت بها اليد الغادرة ليست منفصلة عن الأداء الأمني للصهاينة في المنطقة وهي ليست سوى بداية القائمة الطويلة والأحداث المتدافعة ، إن جنوب لبنان تحول على المكشوف الى منطقة استهداف استيطاني مثل دول عربية أخرى ، وأي خطر يمس حزب الله سيعني إزالة عائق كبير أمام جيش المخربين للهجمة على سوريا أولا وايران ثانيا والتحرك شرقا وغربا ، إن تصريحات المجرم نتناياهو بتغيير الشرق الأوسط ليست مزاحا ولا هي من باب الدعايات الانفعالية .
إذا أردنا قياس (انهيار) حزب الله الذي يَدعيه أعداء الأمة  فلا يمكن حسمه بتصريح العدو بأنه قد حَيَّد اكثر من نصف قدرات الحزب الصاروخية  وانهى حياة الصف الاول من قياداته ، المقياس الحقيقي يتمثل في استمرار وقفته مع غزة و التصعيد في شن الهجمات ضد الكيان الصهيوني لهذا الأسبوع والأيام التالية ، والمعركة الحقيقية التي ستعيد اتزان الحزب هي المعركة البرية القادمة التي سَيُمنى فيها العدو بالهزيمة الماحقة التي سترد الروح المعنوية بعد هذه الضربات القاسية التي لحقت بقوى الحزب وقياداته .
المشهد الذي يفترض أن يتولد من سلسلة الأحداث التي تتفجر كل يوم هو مشهد الشعوب العربية التي ترفض العودة إلى بيوتها وتملأ الشوارع احتجاجا وتظاهرا ضد الهجمة على لبنان والتنديد بعمليات الاغتيال لقيادات حزب الله  والقتل الممنهج لأهلنا في غزة ولبنان  والضغط لارغام حكومات هذا العالم المجرم لايقاف هذه العصابة عن جرائمها، إن جنوب لبنان مرشح بشدة ودون أية شكوك لأن يكون النسخة الثانية من غزة ولا يوجد وقت للوقوع في أفخاخ العدو وبدء معارك دونكيشوتية داخلية ، إن أفضل ما يمكن قوله هنا هو مقطع الفيديو الأخير لأستاذنا الكبير عبد الباري الذي قدم فيه الرؤية الصحيحة .
هنالك اسئلة كبيرة يجب ان تقدمها المقاومة اللبنانية لجمهورها العربي والاسلامي وهنالك مواقف يجب ان تقدمها ايران صراحة على شكل سلوك وقرارات فورية مصيرية قبل ان ينجح افراد الوحدة الشيطانية في زرع بذور الفرقة، ومطلوب من ايران أن تجيب عليها وبسرعة وحسم قبل أن يصبح محور المقاومة في خطر ايديولوجي قبل الخطر الوجودي.
متى ينتصر العدو الصهيوني على ايران ومحور المقاومة ويدفع بغزة أو لبنان لرفع الراية البيضاء؟ يحدث ذلك فقط إذا تمكن هذا العدو من الدفع بكل هؤلاء إلى التنازل عن العقيدة القتالية والبقائية التي يؤمنون بها، يحدث ذلك فقط عندما تخرج علينا جماهير غزة أو الجنوب أو اهل اليمن ويعلنون صراحة كفرهم بالمقاومة والأيقونات الثورية التي عاش الجميع في وعائها وراثة من الجد إلى الأب الى الابن.
ان محور المقاومة يقاتل منذ سنوات طويلة لم تتمكن فيها دويلة الكيان من الانتصار ولم يحدث خلالها الانهزام للمقاومة، ان حرب القصف والاعيب جيمس بوند وعمليات الاغتيال الجبانة لا يمكن ان تحقق النصر الحقيقي، هذا النصر (أون لاين) لا يصنع تاريخا ولا مجدا ولا بقاءا في التاريخ، إن حزب الله الذي أرعب الكيان طيلة ثلاثين عاما وسوف يستمر ليس نمرا من ورق بل هو ورقة قوة لكل هذه الأمة، المعركة الحقيقية هي معركة الاستمرار والثبات والبقاء على النهج حتى النهاية وهذا ما يكون عليه محور المقاومة الذي أودعناه ثقتنا ودعاءنا ومستقبلنا وكل أمانينا.
كاتب عربي من فلسطين