أعترف أنّ الكتابة حول التغيّر الذي أحدثته الحرب في الوعي الفلسطيني مهمة صعبة، وذلك لأنّ هذا الوعي بخلاف ما حاولنا أن نبيّنه من تطوّرات خاصة ونوعية في الوعي العالمي والعربي، لا يخضع لنفس المعايير التي قيّمنا من خلالها حالة الوعي الجديد على الصعيدين العالمي والعربي.
نحن هنا لسنا أمام مقولات التضامن والتعاطف، ولا أمام درجات من الإسناد والدعم، ولا أمام المثابرة والالتحام، على أهمية هذا الدعم وهذا الإسناد، وإنّما نحن أمام معايير نوعية أُخرى.
التغيّر الذي أحدثته الحرب في الوعي الفلسطيني هائل بقدر ما هو متناقض وملتبس.
وهو وعي جديد وغير مسبوق ليس من منظور درجته، ولا من منظور تعمّق محتواه، ولا حتى من زاوية ما كرّسه، وما أسّس له من رؤى، ومن آمال فقط، وإنّما من زاوية ما قطعه هذا الوعي مع مقولات ومفاهيم سابقة على هذا الوعي.
أين وكيف تمّ هذا القطع؟
هنا علينا أن نعود إلى ما كان يسود من وعي قبل الحرب.
منذ الانقسام الذي تتحمّل حركة حماس المسؤولية الأولى والرئيسة عن حدوثه، وتتحمّل القيادات الرسمية على جانبيه المسؤولية عن الفشل في إنهاء هذا الانقسام، ولم تنفع عشرات المحاولات لتجاوزه، وتكرّس هذا الانقسام وتمأسس، وتحوّل إلى “واقع” جديد أفضى في نهاية ما كانت عليه الأمور قبل الحرب إلى “التسليم” بالانقسام كواقع مكرّس، وأصبح بالإمكان التعايش معه، والبحث عن سبل الوصول إليه بدلاً من تمرّد الحالة الوطنية والشعبية عليه.
وهكذا بدأ الوعي الفلسطيني على هذا الصعيد بالذات يتأقلم شيئاً فشيئاً مع وجود سلطتين، لا سلطة حقيقية لهما، تبحثان كلّ من جانبها عن الوسائل والسّبل التي تؤمّن “بقاءهما” على حساب المشروع الوطني، وعلى حساب المشروع الديمقراطي في آنٍ معاً، بالرغم من الحروب التي شُنّت على القطاع، ومن الاستهداف اليومي للضفة.
وهنا يجب أن نعود إلى واقعة التأييد الأعلى لـ”حماس” في الضفة الغربية من تأييدها في قطاع غزّة، والتأييد الأعلى لحركة “فتح” في غزّة من تأييدها في الضفة.
وفي الحالتين تعزّزت القناعات الشعبية بأنّ الحالة الوطنية قد أصبحت تعاني من فقد الدور، والبوصلة أو الاتجاه، وحيث وصل مشروع المفاوضات إلى طريقٍ مسدود، وتحوّل مشروع المقاومة إلى مجرّد مشروع للسلطة والحكم.
وفي هذه الأثناء بالذات بدأت القضية الوطنية تتراجع على كلّ الصعد والمستويات، حتى وصلت الاستهانة بالحقوق الوطنية الفلسطينية في مرحلة دونالد ترامب إلى ذروتها، ولم تفعل قيادة جو بايدن شيئاً جوهرياً واحداً حيال كلّ ما قام به ترامب من بلطجة سياسية بحقّ الشعب الفلسطيني، ولحق “الغرب” بالولايات المتحدة مثل القطيع في الحرب على روسيا، وفي استفزاز الصين، وتهمشت القضية الفلسطينية، وبلغ الاستهتار الرسمي “العربي” بها حدود تحوّل “التطبيع” مع دولة الاحتلال إلى سياسة معلنة، في ظلّ تغيّرات الأولوية الدولية، وفي هذه الأثناء، أيضاً، شهدت دولة الاحتلال تحوّلات جذرية نحو العنصرية، ونحو “حسم الصراع”، وهجوم استيطاني وتهويدي كاسح بقيادة حكومة من المستوطنين الفاشيين.
باختصار شديد كانت حالة الوعي الفلسطيني العام هي حالة في سوادها الأعظم يائسة، ومحبطة، وفاقدة للثقة، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية، وغياب اليقين السياسي، وهشاشة التماسك الوطني بصورةٍ لم يسبق لها مثيل.
في ظلّ واقع كهذا، وأجواء كهذه جاء 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر العام المنصرم.
أدركت قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني منذ الساعات الأولى أنّ ثمة تغيّرات هائلة وغير مسبوقة أحدثتها صدمة “طوفان الأقصى”، وستحدثها حتماً على صعيد مصير النضال الوطني، وربما القضية الفلسطينية برمّتها.
قلنا، إنّ الوعي الفلسطيني قد صُدِم، وتغيّر بصورة هائلة لكنها بدت منذ الأيّام، وربّما الساعات الأولى للحرب صورة متناقضة وملتبسة.
فمن ناحية شَعَرَ الفلسطينيون أينما وُجِدوا أنّ ما جرى، وما شاهدوه بأعينهم بعد سنوات طويلة من ضياع الاتجاه إنّما هو حدث أكبر من قدرتهم على فهمه وإدراكه في تلك الظروف، وهو حدث يفوق كلّ الأحداث على مدى كامل سنوات ما بعد النكبة، وهو أكبر من كلّ توقّع، ومن كلّ مفاجأة، وخصوصاً بعدما تيقّنوا من الانكسار والانهيار الإسرائيلي.
ومن ناحيةٍ أخرى أدركوا بحسّهم السياسي العالي أنّ إعلان دولة الاحتلال أنّها باتت أمام حرب وجودية، حرب سيتوقّف عليها المصير الإسرائيلي، وهي معركة حياة أو موت، نصر ساحق أو هزيمة كبرى.. أدركوا أنّ هذه الحرب ستكون قاسية وتدميرية وإبادية وإجرامية ودموية إلى أقصى الحدود وأبعدها على الإطلاق.
الحقيقة أنّ دولة الاحتلال أمام انهيار قواتها العسكرية، وأمام سقوط وتهاوي قدرتها الردعية، وأمام اهتزاز صورة الدولة بكاملها، وأمام افتضاح الكثير من مظاهر الهشاشة في أدائها قد حسمت منذ الأيّام الأولى للحرب ثلاث قضايا كبيرة:
1- لم تعد مُقيّدة بإستراتيجية الحرب الخاطفة، وأصبحت مستعدة لحرب طويلة، وإلى آخر يوم تستطيع، وتبقى قادرة على الاستمرار بها.
2- لم تعد تحسب للخسائر البشرية أيّ حسابات تعيق قدرتها على الاستمرار بالحرب، ولا أيّ حسابات اقتصادية أو خسائر مادية مهما كانت باهظة.
3- لن تلتفت إلى الموقف الدولي، أو إلى أخلاقيات الحروب، ولا يهمها المجتمع الدولي، ولا يهمها ولا يعنيها القانون الدولي، وهي في سبيل استعادة هيبة جيشها، واستعادة قوّة الردع لديها، ومن أجل الحفاظ على مجتمعها من الانهيار التام أمام هول المباغتة مستعدة لأعلى درجات القتل والإجرام، وهي عازمة وحاسمة لمنع مثل هذه الانهيارات ولأشدّ أشكال الانتقام وأكثرها قسوة وبطشاً وإرعاباً وعدواناً.
وقد أعدّت لهذه الغايات والأهداف عدّتها العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية، وحشدت وجنّدت وعبّأت كلّ الموارد والطاقات.
أمام كلّ هذه المشاهد والوقائع والمعطيات كيف للوعي الفلسطيني ألا يكون في أعلى درجات النشوة والانبهار والفخار من جهة، وعلى أعلى درجات الخوف على مصير الشعب والوطن والقضية؟
أقصد كيف للوعي الفلسطيني أن يكون محايداً، وبارداً ومطمئناً حيال التدمير الهمجي الذي يتعرّض له الأهل في القطاع، ولا يقيم أيّ وزنٍ لهول الخسائر وأخطارها على المستقبل والمصير الفلسطيني، وأن يعتبر هذا التدمير وهذه الخسائر مسألة ثانوية، لأنّ الأهمّ هو مشروع المقاومة الفلسطينية، أو أن يكون الوعي الفلسطيني بالمقابل بذريعة هذه الأخطار وهذه الخسائر، وبحجّة الخوف على القضية الوطنية لم يعد يرى ما أحدثه “طوفان الأقصى” من صحوةٍ عالمية غير مسبوقة في التاريخ الحديث والمعاصر للبشرية كلّها، أو ألا يرى كيف أنّ الدولة العبرية و”الغرب” الذين تجاهلوا فلسطين، وحاولوا أن يضعوها جانباً قد وُضِعوا هم جانباً بالمقارنة مع ما كانوا عليه، وأصبحت فلسطين هي أولوية شعوب الأرض قاطبة؟.
وكيف للوعي الفلسطيني ألا يرى أنّ فلسطين قد انتصرت فعلاً بفعل البطولة والتضحية والصمود الأسطوري ضدّ عالم “غربي” بكامل أسلحته ودعمه وإسناده لدولة الاحتلال وقد عجز حتى الآن عن الانتصار على بضعة آلاف من المقاتلين الفلسطينيين، أو حتى بضع عشرات الآلاف بأسلحة تعتبر بكلّ المقاييس بدائية ومحلّية، وكيف أنّ هذه البطولة أصبحت اليوم مدرسة كفاحية فذّة يجمع العالم كلّه على أنّها ستكرّس وتدرّس باعتبارها تجربة للإنسانية كلّها.
وكيف للوعي الفلسطيني ألا يرى أنّ هذه الحرب قد أدّت إلى فلسطنة “حماس” في غالبيتها، وفي انحياز الأخيرة لبعدها الوطني، وفي استحالة استثمار تضحياتها لما هو خارج نطاق التحرّر الوطني بعد أن دفع هذا الشعب كلّ هذه التضحيات.
وكيف للوعي الوطني أن يكون سويّاً إذا ظلّ يحاكم القضايا الوطنية الكبرى من خُرم إبرة المصالح الخاصة، أو الانقسام، أو الأجندات الحزبية، بعد أن ثبت بالملموس وبالممارسة الأميركية والإسرائيلية أنّ الحرب العدوانية كانت وما زالت وستبقى ضد الشعب الفلسطيني كلّه، وليس ضدّ “حماس”، وضدّ القطاع والضفة، وضدّ الأهل في “الداخل”، وضدّ كلّ فلسطيني على وجه الأرض؟
كيف يمكن أن يكون الوعي الوطني سويّاً إذا نظر لهذه الحرب باعتبارها مؤامرة، وكيف يمكن أن يكون الوعي سويّاً إذا اعتبر أنّ النقد أو التحذير، أو الخشية من أن تكون الخسائر الباهظة والكبيرة تشكّل خطراً على مستقبلنا وكأنّه ممنوع أو مستهجن أو محرّم؟
هذا التناقض، والالتباس، بل النشوة هو الابن الشرعي للانقسام، وهو الوريث الشرعي للقبلية السياسية التي انحدرت إليها الحالة الوطنية، ومن نتائج هذه الحرب حتى الآن أنّ الوعي الوطني قد قطع الصلات مع أوهام التعايش مع المشروع الصهيوني، وقطع مع المراهنات على حلول يرعاها “الغرب”، ومع مراهنات تلاشت على النظام العربي، وعلى كلّ مشاريع أوهام السلطات الحزبية الخاصة، وعلى الحكومات المدجّنة والمهجّنة، وعلى التمحورات الإقليمية بكلّ أنواعها، ولكنه ما زال وثيق الصلة بالاستقطاب الانقسامي.