هاني المصري
كنت أتمنى، ولا أزال، أن أكون مخطئًا في توقعاتي بأن خطاب الرئيس أمام الجمعية العام للأمم المتحدة لم ولن يؤدي إلى تغيير المسار الذي اشتكى منه الرئيس في خطابه مر الشكوى، بل ما جرى بعده يدل على أن المراوحة مستمرة في المكان نفسه، وهذا ما ظهر من خلال مؤشرَيْن كبيرَيْن: الأول، تأجيل الاجتماع الموسع الذي كان سيعقد في الجزائر؛ والثاني، استمرار التنسيق الأمني والتفكير بمضاعفته.
فجراء الخلافات، لم يعقد الاجتماع الفلسطيني في الجزائر الذي كان من المفترض أن يعقد في الثاني من الشهر الجاري، والبحث جارٍ عن إمكانية عقده في موعد لاحق في هذا الشهر. فقد ذكرت مصادر مطلعة أن الرئيس محمود عباس، عبر وفد حركة فتح، أصرّ على ضرورة التركيز في الحوار الجاري بوساطة جزائرية على تشكيل حكومة وحدة وطنية تلتزم بالشرعية الدولية، وهذا يشمل ضمنًا الاعتراف بشروط اللجنة الرباعية، وعدم الالتزام بمواعيد محددة بخصوص منظمة التحرير والمجلس الوطني، كما رفض توسيع المشاركين من المستقلين تلبية لاقتراح جزائري بزيادة عددهم بشكل معقول.
من دون إرادة سياسية مستعدة لدفع ثمن الوحدة سيتعمق الانقسام
سواء عقد الاجتماع في الجزائر، أو لم يعقد، لن يحصد سوى فشل جديد ما دامت الأطراف المنقسمة غير مستعدة لدفع ثمن الوحدة الوطنية وتوفير مستلزماتها، وما دامت أطراف أخرى ليست قوية بما يكفي لفرض إرادة الشعب ومصلحته على الجميع، وما دام الرئيس يريد الوحدة أن تحقق شروطه المرفوضة من معظم الشعب والفصائل الفاعلة، وما دامت المعارضة تنتظر تغيير موقفه، وتكتفي بالإدانة والانتقادات تارة، وبالمناشدة والمطالبة تارة أخرى، من دون بلورة رؤية شاملة، ووضع خطة تفتح الطريق لبناء بديل من الواقع الحالي إذا لم يستجب النظام السياسي الحالي لنداء التغيير، من خلال الضغط السياسي والجماهيري على القيادة الرسمية وحركة فتح للعمل معًا لخلق شراكة حقيقية تقوم بتغيير السلطة والمسار السياسي لصالح مسار وطني توافقي، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي، من خلال التوافق الوطني، والاحتكام إلى الانتخابات في جميع المستويات والقطاعات السياسية والنقابية.
ومن دون تحقيق ما تقدم، سيستمر الانقسام، ويتعمق ويتحول إلى انفصال، بما ينذر باستمرار حالة الحصار والعدوان والهدن التي تمدد مرة بعد أخرى في قطاع غزة من دون أفق لتغيير حاسم، ومع عدم استبعاد كلي لعقد هدنة طويلة الأمد على قاعدة أمن مقابل اقتصاد وتسهيلات بالتوازي مع السلام الاقتصادي والتعاون الأمني في الضفة.
وفي الوقت نفسه، تواصل إسرائيل ابتلاع الضفة ضمن سياسة الضم الزاحف والمتدرج، والمترافق مع استكمال تهويد القدس والأقصى، والسعي لتصفية قضية اللاجئين، والتمييز العنصري ضد شعبنا في الداخل، والحصار والعدوان ضد قطاع غزة؛ أي مواصلة سياسة تصعيد الصراع وليس تقليصه كما يدعون.
وظهر ذلك بشكل جلي في تصعيد الاقتحامات والاغتيالات والاعتقالات، خصوصًا في جنين ونابلس، وسط البحث داخل الأوساط السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية حول ما هي السياسات الأفضل، والمفاضلة ما بين استمرار العدوان بوتيرته الحالية، أو تخفيفه بشرط قيام السلطة الفلسطينية بمضاعفة دورها، خصوصًا في المدن، أو تصعيده باستخدام الاغتيالات من الجو، أو تنفيذ عملية أو عمليات “سور واقٍ” جديدة؛ بمعنى قيام قوات الاحتلال بأعداد كبيرة باحتلال كامل لمنطقة، والمرشحة جنين لتكون الأولى، والبقاء فيها حتى يتم اعتقال وقتل المقاومين وتصفية البنية التحتية للمقاومة.
السلطة أمام مفترق طرق والمعارضة بانتظارها
تبدو السلطة عاجزة وحائرة وضعيفة، فهي تواصل التنسيق الأمني ولكن ضمن الحد الأدنى، ومطلوب منها مضاعفته، فهي إذا قامت بكل ما يطلبه الاحتلال من اعتقال المقاومين وسحب السلاح بلا أفق سياسي تخشى من تمرد المقاومين بدعم شعبي متزايد، كما حصل عندما اعتقلت مصعب اشتية وعميد طبيلة في نابلس، في ظل تصاعد المقاومة، لدرجة تنفيذ حوالي أكثر من 200 عملية إطلاق نار على دوريات الاحتلال ومستوطنيه خلال شهر أيلول المنصرم بحسب جهاز الشاباك الإسرائيلي.
وفي حال وقفت السلطة مكتوفة اليدين، فهذا سيدفع الاحتلال للقيام بالمهمة وحده، وهذا يقلل من حاجته إليها، وقد يشجعه ذلك على إعادة فك السلطة وتركيبها، وتحويلها بسرعة أكبر إلى وكيل أمني بالكامل، وأداة طيعة في يده.
وسيتعزز هذا السيناريو (التصعيد) إذا فاز اليمين بزعامة بنيامين نتنياهو في الانتخابات القادمة، أو إذا اختارت السلطة الانحياز لشعبها، وشرعت في تطبيق قرارات الإجماع بخصوص إعادة النظر في الالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية المترتبة على أوسلو، ووقف العمل بها مرة واحدة أو بالتدريج، وهذا الأمر سيفتح أفقًا سياسيًا رحبًا أمام الفلسطينيين، وسيجعل السلطة في مواجهة مع الاحتلال، وهي غير مستعدة لها، ولا بد أن تشرع في الاستعداد لهذا الخيار؛ لأنّ البنية القائمة فيها مضادة لأي تغيير جوهري؛ ما يجعل المحتمل بصورة أكبر بقاء السلطة كما هي عليه، وهذا سيجعلها تواصل سيرها، ببطء أو بسرعة، لتتحول إلى وكيل أمني خاضع بالكامل لما يريده الاحتلال.
وفي هذا السياق، أشارت المعلومات المتداولة عن المكالمات التي جرت بين الرئيس عباس والرئيس الإسرائيلي ووزير حربه لتهنئتهما بالأعياد اليهودية، قد بحثت في كيفية قيام السلطة بمسؤولياتها بشكل أكبر فيما يتعلق بالتنسيق والتعاون الأمني، كما ذكرت مصادر إعلامية أن السلطة تحاول أن تحل مسألة المقاومين المطاردين والمعرضين للاغتيال والاعتقال عن طريق إقناعهم بتسليم أنفسهم وسلاحهم مقابل تعويض مالي، وربما الانضمام إلى الأجهزة الأمنية، مقابل العفو عنهم بتعهد من السلطة والاحتلال بعدم اعتقالهم.
وأشارت المصادر نفسها إلى أن المقاومين المطاردين رفضوا هذا العرض، بدليل قيامهم مؤخرًا بتصعيد عمليات المقاومة بمبادرة منهم، مع توفر حاضنة شعبية متزايدة، وليس من خلال التصدي للاقتحامات الإسرائيلية فقط، وهذا صحيح بدليل صدور بيانات من “عرين الأسود” وغيرها من كتائب المقاومة بتبني عمليات مقاومة استهدفت مواقع وأهداف إسرائيلية.
يعدّ هذا المسار والمصير اللذان بلغتهما السلطة نتيجة طبيعية لعدم تغير المسار الفلسطيني بعد فشل أوسلو والعملية التفاوضية، منذ فشل قمة كامب ديفيد في العام 2000، ونتيجة لتحول السياسة الإسرائيلية من سياسة الانفصال عن الفلسطينيين، والموافقة على قيام دولة فلسطينية وفق الشروط الإسرائيلية التي تنزع عنها مواصفات الدول، ضمن عملية سياسية مختلة كما حصل منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى العام 2009، عندما عاد نتنياهو إلى رئاسة الوزراء، وهو مصمم على استكمال القضاء على أوسلو إسرائيليًا والحفاظ عليه فلسطينيًا، ومصرّ على سياسة رفض قيام دولة فلسطينية، ونزع البعد السياسي عن العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، وحصرها ضمن سقف اقتصادي أمني، والمضي في تقسيم الفلسطينيين وشرذمتهم، والتعامل معهم بوصفهم أفرادًا وليسوا شعبًا تحت الاحتلال، وابتلاع المزيد من أرضهم؛ إذ أقصى ما يمكن السماح بقيامه كيانٌ أو كيانات متصارعة خاضعٌ أو خاضعة كليًا للاحتلال.
مطلوب حاضنة سياسية وقيادية وبرنامجية
لا معنى لخطاب الرئيس الأخير من دون تغيير المسار، واعتماد رؤية وإستراتيجيات جديدة، وتوفير حاضنة سياسية وقيادية (من الفصائل والقيادات القائمة، وهذا متعذر وغير مرجح حتى الآن، أو ظهور قيادات وفصائل وحراكات جديدة أو بالجمع بين القديمة والجديدة)، ووجود أفق سياسي، وتشكيل جبهة أو لقاء وطني واسع قادر على فرض الوحدة الوطنية على أساس وطني (يجسد القواسم المشتركة) وديمقراطي وشراكة حقيقية وجعلها أولوية لدى مختلف الأطراف، وخصوصًا القيادة الرسمية، وكذلك لا معنى للانتقادات والإدانات المترافقة أو المتبادلة مع المناشدات والمطالبات للخطاب الرسمي.
من دون توفير ما سبق، فالقديم بقي وسيبقى على قدمه، والأنكى والأمر أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، والمقاومة الباسلة والمجيدة لن يتم استثمارها سياسيًا بما يتناسب مع حجم البطولات والتضحيات.