في مجرى تحرّي أسباب عدم وقوف إسرائيل في صفّ أوكرانيا، بشكل غير قابل للتأويل، في أثناء الحرب التي تشنها عليها روسيا، مثلما أقرّ بذلك أيضًا الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في صلب خطابه الذي ألقاه عن بُعدٍ أمام الكنيست الإسرائيلي (20/3/2022)، لم يكن عسيرًا استشفاف أن هذه الأسباب ليست كامنةً فقط في المصالح التي تجمع بين تل أبيب وموسكو فيما يخصّ الساحة السورية، وكذلك في ما يوصف بأنه يصبّ في خدمة كبح العدوانية الإيرانية ونزعات الهيمنة لدى الجمهورية الإسلامية، إنما أيضًا في أن لدولة الاحتلال ثأرًا قديمًا مع أوكرانيا، وأن الفترة الحالية تشكّل فرصة ذهبية للتشفّي بهذه الدولة، وإنْ على نحو مُبطّن.
وهو ثأر مرتبط بتاريخ أوكرانيا في كل ما يُعرف بموجات معاداة السامية منذ مئات الأعوام. وحتى بين كتابات الذين أبدوا معارضتهم الحرب، يمكن استخلاص أنهم لم يتجنّبوا الوقوع تحت تأثير نزعة التشفّي هذه، حين أعادوا إلى الأذهان أن رموز معاداة السامية على مرّ التاريخ الذين ارتكبوا المجازر بذريعتها هم في جلّهم من سلالة الأوكرانيين والقوزاق، بدءا ببوهدان زينوفي خميلينتسكي، وليس انتهاءً بسيمون بتليورا وستيبان بانديرا. وتُنعت حصيلة هذه المجازر بأنها “إبادة الشعب الأكبر في التاريخ اليهودي قبل الهولوكوست”.
وفي مُجرّد هذا ما يوحي برفض تحويل شرور الماضي إلى رمادٍ، وبالذات فيما يرتبط بهذه المجازر، على الرغم من أن في الوسع أن نقرأ بين السطور استخدامًا أداتيًا لهذه المجازر، بموازاة الاستخدام الأداتي المكرور للهولوكوست، من أجل أهداف عدّة يظلّ في مقدمتها استدرار الشرعية لإقامة الدولة اليهودية ولما ارتكب من موبقات وجرائم ومجازر في فلسطين في طريق إقامتها.
ومن اللافت أيضًا، على وجه الخصوص، أن حقيقة انتماء زيلينسكي إلى الديانة اليهودية بدت قليلة الأهمية، من منطلق عوامل شتّى، أهمها أن يهوديته مشكوكٌ فيها كونه متزوجًا من غير يهودية، ما يعني أن أولاده ليسوا يهودًا.
وتزامن ذلك مع إعادة احتدام الجدل في إسرائيل بشأن تعريف “من هو يهودي”، وبرز من بين المقاربات المطروحة أن العُرف الأكثر صدقيةً للتعريف السالف ذاك الذي يعتبر اليهودي الحلال مَنْ أولاده يهود، بقصد من ولدوا لأمٍ يهوديّة، وهذا لا ينطبق على الرئيس الأوكراني “الذي كان زواجه من مهندسة ليست يهودية عام 2003 بمثابة إعلان طلاق أبديّ مع اليهودية”، كما كُتب في أحد التحليلات.
وطولب زيلينسكي، في أحد التعليقات عشية إلقائه خطابه أمام الكنيست، في سبيل إثبات يهوديته بإزالة النصب التذكاري لمن وُصفوا بأنهم “قاتلو اليهود” من ميادين المدن الأوكرانية، والتعهّد بأن تصوّت بلاده إلى جانب إسرائيل دائمًا في كل المنتديات الدولية.
وفي هذه النقطة، أعيد إلى الأذهان أن أوكرانيا صوتت في الأمم المتحدة ضد إسرائيل 35 مرة، وامتنعت عن التصويت أربع مرات، وكانت أبرز عمليات تصويتها تأييد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 بشأن الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة منذ 1967، والذي أمكن اتخاذه إثر امتناع الولايات المتحدة عن التصويت في آخر ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، في ديسمبر/ كانون الأول 2016، في وقتٍ كان رئيس الحكومة الأوكرانية فولوديمير غرويسمان، وهو يهودي وأحد الذراري الناجين من الهولوكوست.
لا يقتصر الأمر على ما تقدّم بل ينسحب أيضا على الحقل الثقافي، حيث وردت في معالجاتٍ كثيرة بهذا الشأن أحكام فاقعة في إطلاقيتها على غرار القول إن الأدب والقومية في أوكرانيا مؤسّسان على معاداة السامية، وأبلغ دليل على ذلك قصائد شاعرها القومي الأهم تاراس شيفتشينكو (1814- 1861)، وبالذات قصيدة “هايدامكاو” التي تناولت الانتفاضة الأوكرانية ضد الحكم البولندي في القرن الثامن عشر.
باختصار، أدّت الحرب الروسيّة إلى أن تضع إسرائيل أوكرانيا أمام مرآة ماضٍ أسود، بينما ترفض الوقوف أمام مثيلتها بالنسبة إلى ماضيها الذي لا يقلّ عتمةً!