حماد صبح
كتب ناحوم بارنيع محلل الشئون السياسية الرئيسي في صحيفة ” يديعوت أحرونوت ” أن أبا مازن بعث رسالة سرية إلى إسرائيل يبدي فيها استعداده لمناقشة تغيير سياسة السلطة الفلسطينية في مسألة الرواتب التي تدفعها لأهل الشهداء والأسرى ، والتي تقتطع إسرائيل منذ 17 فبراير 2019من أموال المقاصة ما يعادلها ، حوالي 32 مليون دولار شهريا ، عقابا للسلطة على دفع تلك الرواتب ، ويفاقم هذا الاقتطاع أزمتها المالية في وقت تضاءل فيه ما تقدمه لها الدول المانحة ، والضئيل المتبقي تزدحم الشروط عليه ، ومنها تنقية المناهج الفلسطينية مما تصفه تلك الدول تشجيعا على الإرهاب ونبذا لقيم التسامح دون أي التفات منها لما في المناهج الإسرائيلية من تفجير لروح العنصرية والإرهاب وتشويه لحقيقة الإنسان العربي ، ونعته بكل صفات الإجرام والتخلف والكذب والغدر ورفض المسامحة . وتتجاهل هذه الدول التطبيق العملي الذي ينفذه الجيش الإسرائيلي والمستوطنون لما في المناهج الإسرائيلية من قيم عنصرية وإرهابية .
ويقول بارنيع إن الحكومة الإسرائيلية لم ترد على رسالة أبي مازن، والمتوقع ألا ترد ما دام رئيسها بينيت الذي صرح في يناير الماضي بأنه ليس مستعدا للقاء أي من قادة السلطة لمناقشة أمور سياسية، ويرفض الالتزام باتفاق أوسلو الذي قال الراحل شمعون بيريز إنه كتب من ألفه إلى يائه بيد إسرائيلية، وتبعا لكل ذلك يرفض بينيت إقامة دولة فلسطينية، ويقول: ” لن أسمح بمفاوضات على خط الدولة الفلسطينية”. والحق أن بينيت ليس بِدعا من القادة الإسرائيليين الأموات والأحياء.
أمواتهم رفضوا هذه الدولة، وأحياؤهم يرفضونها ، وسيرفضها من يلونهم ، والفرق هو في مراوغة قائد ، ومداورة آخر في مسألة هذه الدولة. نتنياهو داور، وقال إنه يقبل بدولة فلسطينية ، وقليلا قليلا تراجع عما قاله، وبينيت مجاهر صريح . والمشكلة ليست في قادة إسرائيل ، هم أعداء أقاموا دولتهم بالحديد والنار في أرضنا، ومنذ قيام هذه الدولة وهي توالي قتل الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها ، وتقتلع جذور من تبقى منهم فيها، وتتصرف باقتناع مترسخ متمكن أن المعادلة بين الطرفين: إما نحن وإما هم ، إما الإسرائيليون وإما الفلسطينيون، حرب وجود أو زوال، وما دامت تملك مقومات الوجود ، فليزل الفلسطينيون! أبو مازن، ولا أبخس الرجل قدرته على الفهم الصحيح للأمور، وكتبت مرة أمتدحه كاتبا متميزا موهوبا، وتمنيت لو أنه انصرف للكتابة وابتعد عن السياسة ؛ يتصرف بعيدا عن هذه المعادلة ، فيدعو إسرائيل بين حين وحين إلى التفاوض، ومرة قال: “سأفاوض وأفاوض وأفاوض”، ويتنازل لها كلما ضغطت عليه، وهددته بعد العمليات الأخيرة التي قتل فيها أحد عشر من مستوطنيها إن لم يُدِن تلك العمليات، فأمسك العصا من وسطها، وبث بيانا قال فيه: “إن قتل المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يؤدي إلا إلى المزيد من تدهور الأوضاع . “، وتنسيق سلطته الأمني معها أنقذها من قتلى وجرحى كثيرين، وجنبها تكاليف مالية كبيرة، وأمن جنودها ومستوطنيها في الضفة ، وأكسبها سياسيا ، فسوغ المطبعون العرب تطبيعهم معها من بين مسوغات أخرى بهذا التنسيق ، وشعر بعض الناس في العالم أن العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين علاقة سوية طبيعية، ومن سوائها وطبيعيتها أن الطرفين يتعاونان في مقاومة الإرهاب!
وكم متخصصا في شئون المنطقة يعلم أن هذا التعاون يسير في اتجاه واحد هو تأمين المستوطنين والجنود الإسرائيليين، وأن الفلسطينيين لا تأمين لهم من جرائم وشرور وعدوانية هؤلاء؟! وكل شيء في الأراضي الفلسطينية منذ أوسلو يسير لخير إسرائيل في واقع شلل سياسي فلسطيني كامل، وخصومة لا لين فيها بين السلطة وبين من يقاومون الاحتلال الاستيطاني، وهما حماس والجهاد، والشبان غير المنتمين لأي فصيل، وإلى جانب الشلل السياسي والخصومة الحادة أثقال معيشية مضنية على الفلسطينيين خاصة في غزة التي وصلت نسبة البطالة فيها بين القوى القادرة على العمل 60 %.
ومهما ساءت صورة إسرائيل عالميا تواصل قتلها واعتقالها للفلسطينيين في الضفة والاستيلاء على أراضيهم ، ومضاعفة تصرفاتها القمعية وقوانينها العنصرية ضد فلسطينيي الداخل ، وتواصل خنق غزة وتهديدها بعدوان جديد ، وإن لوحت أحيانا بجزرة تشغيل عدة آلاف من عمالها في الداخل الفلسطيني المحتل مثلما تفعل هذه الأيام ، ويذهب بعضهم مضطرا مغلوبا على أمره ، وحاله يجسدها قول المتنبي : ” ومن نكد الدهر على الحر أن يرى = عدواً له ما من صداقته بدُ ” . وهذه المواصلة للإساءة المميتة للفلسطينيين مردها أن إسرائيل لا تجد كيانا سياسيا فلسطينيا جادا وحازما يتصدى لإساءتها مفعلا لقوى شعبه الذي لا يتردد في التضحية دفاعا عن وطنه ومستقبله فيه.
وأحيانا تصدر مواقف إيجابية من قوى شعبية متنوعة الاهتمامات والاختصاصات في الغرب تستنكر جرائم إسرائيل في حق الفلسطينيين ، ولا يستفاد منها فلسطينيا لغياب كيانية سياسية فلسطينية تصنع هذه الاستفادة . وموقف عظيم الأهمية ذاك الذي صدر منذ يومين عن كنيس “تسيدك شيكاغو ” اليهودي في مدينة شيكاغو الأميركية الذي صوت أعضاؤه على قرار عرف كنسيهم بأنه معاد للصهيونية ، واعتبر قيام إسرائيل ظلما للشعب الفلسطيني، وعلى عظم هذا الموقف وشجاعته ونبالته فتقديرنا المنبثق من سوابق كثيرة أنه لن يلقى جهة فلسطينية توظفه في صالح القضية الفلسطينية.
كل علاقة السلطة الفلسطينية مع إسرائيل لا فائدة منها للقضية الفلسطينية ، وفوائدها لإسرائيل ، وأبو مازن مقتنع بهذا الحصاد العقيم للسلطة فلسطينياً ، فمتى يتصرف انطلاقا من هذا الاقتناع ؟! لن يتصرف أبدا . تصرفه مؤداه نهايته ونهاية سلطته، والاثنان لا يريدان هذه النهاية .