حاولت إسرائيل التعتيم على جرائم الحرب التي ارتكبتها في قطاع غزة، بعد احتلالها لفترة قصيرة خلال العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956. ويدعم هذا التعتيم على الجرائم، فرضُ إسرائيل “سرية مشددة على توثيق تاريخي تناول جرائم حرب منذ قيامها وحتى اليوم”، وفق ما كتب الباحث في معهد “عكيفوت” لدراسة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، المؤرخ آدم راز، في صحيفة “هآرتس” اليوم، الجمعة.
ووثق الأديب الإسرائيلي، ماتي ميغيد، بقصة قصيرة نشرها في صحيفة “لَمِرحاف” الجرائم التي شملت مجازر واغتصاب، ارتكبها جنود إسرائيليون في قطاع غزة، تحت أنظار حاكمها العسكري، الذي أشار إليه ميغيد بالحرف “د”. وكان عنوان القصة “نهاية السيد ’د’ المريرة”.
وكتب ميغيد أن اغتصاب الجنود الإسرائيليين للنساء الغزيات تكرر، وأن أحد الجنود قال لزميله: “كان ينبغي أن ترى ماذا حدث هنا أمس… هؤلاء العرب (قالها بصيغة استهزاء)، بعد أن أخذنا نساءهم إلى العمل، بدأوا يشاغبون. فماذا فعلنا؟ أخذنا عدة نساء، من الشابات إلى أحد البيوت، وهددناهن بأنه إذا لم يتوقفن، فسوف نغتصبهن جميعا أمام أنظار جميعهن… هل تعتقد أنه كان لهذا تأثير؟ كان له تأثير طبعا… لكنه لم يؤثر علينا بألا نفعل ما وعدنا به، رغم أنهم توقفوا عن الشغب… واحتجزناهن هناك طوال الليل”.
وأضاف ميغيد في قصته أن الحاكم العسكري فسّر ممارسات الجنود بأنهم “لم يستخدموا القوة. وإنما قالوا للنساء، في بداية فعلتهم – مثلما رووا لي عمليا – إنه إذا قاومن الجنود، سيذبحون الجميع. وقال لي أحد الجنود إن فعل ذلك أسهل من دون أن يضطر ثلاثة آخرون إلى إمساك المرأة من يديها وساقيها”. وقال الجنود لميغيد إن الحاكم العسكري لم يكترث “إذا اهتجنا قليلا”.
وقال الحاكم العسكري لضيف زاره، وفقا لميغيد، إنه يريد منه أن يفهم “كيف يمكن أن يتدهور شخص مثلي إلى هذه الدرجة، وأنه هو نفسه يأمر جنوده بإطلاق النار على مواطنين عُزّل… ولم تُرتكب هنا أمور خطيرة أكثر من التي ارتكبت في أي مكان آخر من المنطقة المحتلة. بل على العكس. وحتى لو ارتكبت مجزرة هنا هذه الليلة، فلن نكون الأوائل… فقد حدث ذلك في الأسبوع الأول وقُتل عدة عشرات من السكان المفتقدين للحماية”.
وأثار نشر هذه القصة ضجة في حينه، وحتى أن ميغيد تعرض للاعتداء، وادعى بعد ذلك أن القصة خيالية، لكنه أضاف أن “ثمة خطرا لعملية مشابهة لهذه التي شهدها ’أبطال’ قصتي في أي منطقة حكم عسكري”.
ولفت راز إلى أن المؤرخة أيال كفكافي كانت أول من ذكرت قصة ميغيد في كتابها حول العدوان الثلاثي “حرب اختيارية”، الصادر في العام 1994. وأكدت كفكافي أنه ربما لأن القصة كانت قطعة أدبية، “لم تمنع الرقابة الأمنية نشرها”. لكنها شددت على أن “المسافة بين الخيال والواقع لم تكن كبيرة بكل تأكيد”.
وأضاف راز أنه بعد 65 عاما على الأحداث المذكورة في القصة، فإن “المصاعب التي تضعها الدولة أمام باحثين يريدون العثور على توثيق تاريخي لجرائم حرب ارتكبت إبان الحكم العسكري القصير في قطاع غزة، من تشرين الثاني/ نوفمبر 1956 وحتى آذار/ مارس 1957، ما تزال كثيرة جدا”.
صعوبات تمنع الاطّلاع على الوثائق
وأشار راز إلى ارتكاب الجنود الإسرائيليين جرائم حرب أثناء العدوان الثلاثي ذُكرت باختصار شديد، وتطرقت إلى أسرى الحرب، بينما لم تكن هناك شهادات حول أعمال اغتصاب. وفي منتصف التسعينيات، اعترف قائد الكتيبة 890 في لواء المظليين، أرييه بيرو، لصحيفة “يديعوت يروشلايم” بأنه أعدم أسرى مصريين: “أطلقت النار على أسرى في المتلة (الواقعة في سيناء)… لم يكن لدي الوقت للتعامل مع أسرى. وقتلنا من تمكنا من قتلهم”.
وأضاف راز أن ما تُسمى بـ”وثيقة المحاور”، التي أعدها أرشيف الجيش الإسرائيلي في العام 1988، هي أحد أسباب شحّ الوثائق التاريخية التي يُسمح بالاطلاع عليها. وهذه الوثيقة توجه سياسة كشف الوثائق التاريخية في أرشيف الجيش الإسرائيلي وأرشيف الدولة، وبخاصة تلك التي تنطوي على “حساسية أمنية، سياسية وشخصية”.
ويتناول البند 3 في هذه الوثيقة؛ منعَ الاطلاع على “مادة من شأنها المس بصورة الجيش الإسرائيلي كجيش احتلال يخلو من أركان أخلاقية”، ومن كشف وثائق تتحدث عن “عنف ضد سكان عرب وأعمال وحشية” وبضمنها القتل والإعدامات الميدانية والاغتصاب والسطو وعمليات نهب.
ويتطرق البند 4 إلى منع كشف “مواد متعلقة بالصراع اليهودي – العربي، الذي قد يمس بأمن الدولة اليوم أيضا”. وبين الأمثلة التي يوردها هذا البند: “معاملة عنيفة ضد أسرى خلافا لمعاهدة جنيف؛ عدم الالتفات إلى رايات بيضاء”. وعقّب راز بأنه “عندما تكون هذه هي المقاييس التي تمنع كشف توثيق عسكري وسياسي، فليس مستغربا وجود صعوبة بالغة لتقصّي سير الأحداث التاريخية”.
رغم ذلك، يكشف ضباط إسرائيليون عن جرائمهم بين حين وآخر. ويروي قائد الكتيبة 128 في لواء “يِفتاح” أثناء العدوان الثلاثي، شاؤول غفعولي، في سيرته الذاتية بعنوان “قصصي حياتي”، الصادرة عام 2014، عن محادثة بينه وبين قائد كتيبة آخر: “عندما انتهت الحرب، سألني بيني، قائد الكتيبة 13، إذا تلقيت أمرا بإطلاق النار على أسرى. وأجبت بالإيجاب. وسألني ’ماذا فعلت؟’. ورويت له أنني كنت أعتزم أن أخيفَ وأُحدِث رعبا من دون إطلاق النار على أسرى… وسألت بيني ’هل تلقيت أنت أيضا أمرا كهذا؟’. ’نعم! أبلغت فورا أنني لن أنفذ’”. وأشار راز إلى أن “المهم في هذه المحادثة ليس رفض الضابطان تنفيذ الأوامر العسكرية وإنما أنه صدرت أوامر بقتل أسرى منذ البداية”.
وكان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي حينها، موشيه ديّان، قد قال خلال اجتماع للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1956، أي بعد وقت قصير من انتهاء المعارك، إنه كانت هناك معاملة مختلفة مع أسرى الحرب في كل وحدة.
وأضاف أنه كانت هناك حالات تم فيها إطلاق النار على جنود مصريين رغم أنه كان بالإمكان أسْرُهم. ولم يتحدّث ديان عن إجراءات قضائية ضد الجنود الإسرائيليين الذين أعدَموا أسرى.
ولفت راز إلى أنه ليس معلوما عن حالات حوكم فيها جنود قتلوا أسرى. كذلك فإن بروتوكول اجتماع اللجنة البرلمانية لم يعد مكشوفا في أرشيف الدولة، لكن أقوال ديان تظهر في ملحق الرسام الأميركي جو ساكو، المرفق بروايته المصورة “ملاحظات هامشيّة في غزة”، الصادرة عام 2009.
مجزرتا خان يونس ورفح
أشار راز إلى أن الجمهور اليهودي في إسرائيل ليس مطلعا على المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في خان يونس، في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1956، وبعد تسعة أيام في رفح. وذلك خلافا للفلسطينيين الذين يحيون ذكرى المجزرتين سنويًّا.
وبحسب راز، فإن حصيلة الشهداء التي تشير إلى استشهاد 275 في خان يونس و111 في رفح ، ليست صحيحة على ما يبدو، استنادا إلى وثائق في الأرشيفات الإسرائيلية وبالإمكان الاطلاع عليها.
وأضاف أن “حقيقة أن مواطنين قُتلوا؛ لا شكَ فيها”. وبحسبه، فإن “التوثيق الفلسطيني يستند بمعظمه إلى شهادات شفهية ومصداقيته وجودته تتغير. وتوثيق موظفي الأمم المتحدة الذين تواجدوا في الميدان، وجمعه معهد ’عكيفوت’ في نيويورك، يسمح بالاطلاع على قسم من الأحداث التي دارت بعد الاحتلال”.
وتابع راز أن التوثيق حيال المجازر في خان يونس قليل جدا، بينما توجد صورة أوسع حول الأحداث في رفح. ووفقا لوثائق إسرائيلية، جرت في رفح مظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتصاعدت بسبب إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها، دافيد بن غوريون، قبل يوم واحد، حول قرار الأمم المتحدة بأن على إسرائيل الانسحاب من المناطق المحتلة. وأبلغت وزارة الخارجية الإسرائيلية سفارتها في واشنطن بأن “الجيش اضطر” إلى وقف المظاهرات “بالقوة”، وأن الأمور وصلت “إلى حد إطلاق النار على الحشود” حيث استشهد 30 فلسطينيا.
وغداة هذه المجزرة، اعتقل الجيش الإسرائيلي جميع الرجال في رفح الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و45 عاما، واحتجزهم في حظائر، بادعاء البحث عن أسلحة. وفي اليوم التالي 12 تشرين الثاني/ نوفمبر، تم فرض حظر تجول ومنع مغادرة البيوت.
وأفاد راز بأن “تجميع الرجال في الحظائر تدهور بسرعة إلى سفك دماء”. وقال قائد القوة الإسرائيلية، دافيد إلعزار، إن “الوحدة استخدمت النيران تجاه الذين حاولوا الفرار والذين يرفضون الانصياع للأوامر، ونتيجة لذلك قُتل (استُشهد) قرابة 30 مواطنا”. وبعد ذلك قدّر أن عدد الشهداء لم يكن أكثر من 40. ولفت راز إلى شهادة مواطن من غزة أمام مندوبي الأمم المتحدة في رفح وجاء فيها أن “عمليات القتل لم تتوقف. لقد أعدموا 2000 شخص، أوقفوهم قرب الحائط وأطلقوا النار عليهم”.
وبحسب راز، فإن تقارير مندوبي الأمم المتحدة حول عدد الشهداء في رفح مشابهة للعدد الذي أبلغ الإسرائيليون عنه، لكن مضمون التقارير أظهر واقعا مختلفا. وكتب رئيس لجنة وقف إطلاق النار الإسرائيلية – المصرية، الكولونيل ر.ب. باييرد، أنه من خلال التقارير المختلفة تمّ “التوصل إلى الاستنتاج أن العناية بالمواطنين كان فظا وغير عادل، وتم إطلاق النار على عدد وازنٍ من الرجال بدم بارد ومن دون أي سبب ظاهر للعيان”.
وكتب باييرد في برقية: “أمروا الرجال في المدينة بالخروج من بيوتهم من أجل التفتيش وقسم منهم رفضوا تركهم. وعندما تنقل الجنود الإسرائيليون من بيت إلى آخر من أجل إخراج الرافضين، بدأ قسم منهم بالهرب. وتم إطلاق النار باتجاههم. وليس لطيفا رؤية تعامل الإسرائيليين مع السكان المحليين”.
وكتب جندي من لواء “غولاني” إلى صديقته، في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر، ورسالته محفوظة في أرشيف الجيش الإسرائيلي، أن “العرب مذنبون فقط في كل هذا وسأنتقم منهم في أي فرصة. ولا أكتفي بجميع الذين قتلتهم. لقد قتلنا المئات لكن هذا ليس كافيا بالنسبة لي. وسأنتقم منهم في أي فرصة، ولا تنقص فرص، بخاصة في هذه الأيام التي أتواجد فيها بين آلاف العرب. وهم يخضعون لحظر تجول وهذه فرصة رائعة لفعل كل شيء بهم. وأنا أفعل ذلك ولن أكتفي حتى أعود إلى البيت. أقسمت”.
وأشار راز إلى أن الصحافة الإسرائيلية لم تنشر شيئا عن هذه المجازر، باستثناء مجلة “هعولام هزيه”. وطرحت عضو الكنيست من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، إستير فيلنسكي، الموضوع في الكنيست وطالبت بوقف المجازر.
ورد بن غوريون عليها زاعما أن عددا من سكان القطاع خرقوا حظر التجول وأطلقوا النار على الجيش، “وبعد عدة طلقات في الهواء، كان جنودنا مرغمين على إطلاق النار صوب المشاغبين؛ وقُتل 48 وأصيب عدد آخر”. ولم يتطرق إلى المجزرة في خان يونس.