مدينةٌ لا يطّلع عليها أحد: آثار غزة… «كان صرحاً من خيال فهوى»

الحيّ أبْقى من الميت»؛ على هذه القاعدة يجري التعامل مع المعالم الأثرية في قطاع غزة، والتي تكاد لا تحظى باهتمام يُذكَر، بالنظر إلى ظروف الحصار الخانق المفروض على القطاع، وغياب التمويل المطلوب لمشاريع الاكتشاف والترميم. مع ذلك، تعود تلك المعالم لتطلّ من وقت إلى آخر، مُذكّرةً الغزّيين بأن مدينة كاملة يبلغ عمرها مئات السنين، ما زالت مدفونة في باطن أرضهم، مثلما حدث أخيراً لدى إيقاف العمل في مشروع المدينة المصرية في بيت لاهيا 

غزة | على رغم الحاجة الماسّة إلى بناء وحدات سكنية جديدة بعد أربع حروب مدمّرة شنّها العدو الإسرائيلي على قطاع غزة خلال الأعوام الماضية، إلّا أن وزارة السياحة والآثار في القطاع أوقفت، مطلع الشهر الجاري، العمل في مشروع إنشاء المدينة المصرية الواقعة في مدينة بيت لاهيا شمال غرب غزة، عازيةً ذلك إلى العثور على بقايا قبر من العهد الروماني، اضطرّتها للتحفّظ على المنطقة، تمهيداً للبدء بأعمال الفحص والاستكشاف. وبعيداً من الدلالات السياسية التي قد يحّملها البعض لحدث كهذا، يعيد الحديث عن القبور الرومانية التي نُهبت مقتنياتها قبل أن تلتفِت وزارة السياحة والآثار إليها، تسليط الضوء على عشرات المواقع الأثرية المكتشَفة في القطاع، والتي لا تمثّل أساساً سوى نقطة في بحر ما يؤكد المختصّون وجوده هناك. وبحسب التقديرات، فإن مدينة تراثية كاملة يبلغ عمرها مئات السنين، ما زالت مدفونة في باطن الأرض، لكن هموم الحياة المتزايدة وتقلّبات الوضع السياسي وضعت حضارة المدينة وتاريخها على رفّ الاهتمامات. وعلى قاعدة «الحيّ أبْقى من الميت»، لا يفكّر أحد بحضارة الأموات حينما يبحث الأحياء عن الحياة.

في البلدة القديمة في غزة، تُطلّ القِباب والجدران كشواهد القبور. ربّما هي كذلك، لأن البنايات الحديثة لم تُبقِ من البلدة التي يمتدّ تاريخها لآلاف السنين، إلّا قليلاً من البيوت والمساجد والكنائس و الجدران الأثرية، التي تُذكّر بعراقة المكان.

بين الأزقّة، يجلس العجائز محتفظين بمهنة آبائهم. هنا، تتوحّد قسمات وجه «أبو أحمد» مع جدار قديم يُسند عليه ظهره. يبتسم لرؤيتنا قبل أن يشير بيديه: «تفضّل يا صحافي». ومن دون أن ينهك نفسه بالتفاصيل، يصبّ الشاي من براد نحاسي سيخبرنا في ما بعد أنه ورثه وعدداً من الأواني من أجداده المماليك، الذين كانوا يسكنون منزله الملاصق لمسجد «كاتب ولاية»، يوماً ما. نشرب الشاي المغليّ بعناية، وأمامنا بلاطة المسجد الرخامية القديمة المثبّتة على قوس مدخله، تخبرنا بأنه بُني في عهد السلطان المملوكي محمد بن قالون سنة 707 ميلادي.
وقبل أن نمعن النظر في الخطّ الكوفي العريق على رخامة «كاتب ولاية»، شيء ما يشدّ رأسنا للأعلى، حيث تحتضن مئذنة المسجد التاريخي الصليب الملاصق لها، من دون أن يفصل بينهما سوى حائط قديم، تماماً كما لم يفصل بين فلسطينيّة سكّان غزة في حرب عام 2014 أيّ معتقد أو دين. ففي باحة كنيسة القديس برفيريوس، احتمت أكثر من 750 عائلة من القصف. يتذكّر جبر الجلدة، وهو مدير العلاقات الدينية في الكنيسة التي يعود عمر بنائها إلى القرن الرابع الميلادي، بأن السكّان لجأوا إلى الكنيسة بعد أن اشتدّ القصف على أحياء القطاع. يومها، لم تسلم من الحرب بيوت الناس ولا مساجد الله، فاحتموا في الكنيسة لأكثر من عشرين يوماً. يتابع الجلدة في حديثه مع «الأخبار»: «لم نشعر بأن هناك فرقاً، كان المسلم يجهّز نفسه للصلاة في باحة الكنيسة، وأخوه المسيحي يؤمّن له الماء كي يتوضّأ».

عبر درج رخامي قديم، نزلنا إلى الكنيسة القديمة المطمورة أسفل سطح الأرض بخمسة أمتار. بين مغطس التعميد والصلبان وصور العذراء، كان القسّ يحدّث طلاب مرحلة ابتدائية جاؤوا في رحلة مدرسية، عن تاريخ التسامح الديني بين مسلمي غزة ومسيحيّيها، وتحديداً يوم أعطى المسيحيّون المسلمين، المسجد العمري الكبير الذي كان يُعرف سابقاً باسم كنيسة حنا المعمداني. يعزّز الباحث التاريخي، محمود الغفري، كلام الراهب بأن الأعمدة الرومانية التي بُني منها المسجد العمري هي ذاتها التي بُنيت منها الكنيسة، وكانت قد جُلبت من روما القديمة لغرض بناء أديرة العبادة المسيحية في فلسطين. يُشير الغفري، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أنّ كنيسة برفيريوس التي نزلنا إليها، قد بُنيت أصلاً بمستوى سطح الأرض، وكان يُصعد إليها عبر درج يرتفع عن السطح عدّة أمتار، ما يعني أن غزة القديمة التي تحيطها الأسوار المنيعة، ما زالت بكلّ آثارها ومعالمها تحت أقدامنا، لكن مَن يبحث عن حضارة أُممٍ مضت، إذا فقد الأحياء مقوّمات حياتهم؟
حين تتنقّل بين ما تبقّى من معالم غزة القديمة، تشعر وكأنّك تتنقّل ما بين العصور. حسناً، أنت الآن في حمام السمرة السياحي، الذي بُني في العصر العثماني عام 1300 ميلادي. وهناك، على قارعة حيّ الدرج، سوق كيسارية الأثرية الذي يعود إلى العصر المملوكي عام 1260 ميلادي. وفي حيّ الشجاعية، يقابلك مسجد الظفردمري الأثري المملوكي. وإلى الشمال، شرق مخيم جباليا، تقع الكنيسة البيزنطية التي يعود تاريخ بنائها إلى عام 444م، وهو أقدم تاريخ سَجّل النصوص الكتابية السبعة عشر، إذ تمّ الكشف عن قدر كبير من الكتابات الأثرية في أرضيات الكنيسة الفسيفسائية ومداخلها. وعلى امتداد مساحة القطاع، ينتشر أكثر من 200 موقع أثري جرى اكتشافها على مدار عشرين عاماً مضت. يشرح أحمد البرش، وهو نائب مدير عام السياحة والآثار: «تتنوّع المواقع الأثرية بين التلال والقصور والمساجد والكنائس والحمامات والبيوت الأثرية». ويضيف: «تُمثّل هذه المواقع السجلّ الحضاري لمدينة غزة، لأنها تسجّل تاريخ الحضارات التي تعاقبت على الحياة في هذا المكان».

وعلى رغم أهمية التراث بالنسبة لشعب يتعرّض لاحتلال يستهدف طمس تاريخه وهويّته، إلّا أن الاهتمام الحكومي بالمناطق الأثرية يكاد يكون معدوماً. إذ إن جزءاً كبيراً من آثار المدينة ما زال مطموراً تحت طبقات الأرض، كما أن هناك مواقع أثرية أُجريت فيها حفريات أولية كشفت عن كنوز تراثية كبيرة، ولم تكتمل عملية الحفر فيها بسبب ضعف التمويل، وهو ما يعلّله وكيل وزراة السياحة والآثار السابق في غزة بأن عملية التنقيب مكلفة، وتعتمد على الكادر البشري ذي المهارة العالية، فيما لا تسمح الموازنة الحكومية المحدودة بالقيام بمثل هذه المشاريع الضخمة. كذلك، يفرض الانقسام والحصار تبعاتهما على القطاع التراثي؛ فبحسب محمد خلة، لم تَعُد الجهات الدولية التي ترعى مشاريع الترميم والاكتشاف تتواصل مع وزارة السياحة في غزة، إذ قطعت «اليونسكو»، مثلاً، تواصلها المباشر مع الوزارة منذ الانقسام، لأسباب سياسية تتعلّق بشرعية عمل الأخيرة.

عشرات المواقع الأثرية اكتُشف وجودها وأعيد طمرها بسبب ضعف التمويل، لكن دير القديس هيلاريون، المكتَشف في بلدة النصيرات وسط القطاع، حظِي بميزة الاكتشاف الكامل. الدير، الذي يعود تاريخ بنائه إلى العهد البيزنطي (329هـ)، بدأت عمليات التنقيب فيه عام 1992، ثمّ تتابعت بعد قدوم السلطة الفلسطينية إلى القطاع عام 1995، لتستمرّ لاحقاً بتمويل فرنسي على مدار عشرين عاماً. في المقابل، بقي قدر كبير من آثار تل رفح الأثري، المتاخم للحدود المصرية مع غزة، والذي يتربّع على مساحته 160 دونماً، دفين التراب؛ إذ يقف ضعف التمويل حائلاً أمام استمرار العمل فيه، بعدما تواصلت أعمال التنقيب داخله على مدار خمس سنوات، وأدّت إلى اكتشاف الآلاف من القطع الأثرية، إضافة إلى عشرات الجدران والمعالم والأعمدة الثابتة التي يعود بعضها إلى العهد الروماني، فيما يقدّر المختصون وجود معالم تراثية هائلة لم يجرِ اكتشافها بعد. وتحتاج عملية التنقيب إلى طواقم عمل متخصّصة قد يستغرق عملها عشرات السنين، إضافة إلى خبراء الآثار الذين ينعدم وجودهم في غزة، وعادةً ما تستقدمهم المؤسّسات الدولية الراعية لعمليات الاكتشاف والترميم.
وعلى رغم ما يُتوهّم من عدم اهتمام المجتمع الغزّي بالتراث والآثار، إلّا أن إحصائيات وزارة السياحة تكشف عن تردُّد قرابة الـ300 ألف زائر على قصر الباشا، المتحف الوحيد في غزة منذ افتتاحه قبل ثلاث سنوات. وهو ما يمثّل بالنسبة للمختصّين، عدداً جديراً بالفخر، قياساً إلى التعداد الإجمالي لسكّان القطاع، وانعدام حركة السياحة الخارجية إليه بسبب الحصار المفروض عليه منذ ستة عشر عاماً.