يعجن الروائي والقاص يسري الغول الأحداث بخبرة الفرّان المُحترف، ويخيط شخوصه بإبرة يبدو أنه ورثها عن واحدة من جدتيه، ليخرج لنا في كلّ من سردياته بقطعة مطرزة حيكت بصنعة المُتمرّس، دون تكلّف، وهو ما كان في روايته “مشانق العتمة”، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في العاصمة اللبنانية بيروت.
تميّزت الرواية بقدرة صاحبها على تقديم سردية متماسكة، فهي تخلو كما العادة من أي تأتأة، أو تيه، أو ترهّل، وتقدّم الجديد والجريء، وتخلق حالة مطلوبة من الالتباس، إلى حين، ودون مبالغة، بلغة تقبض على قارئها، من فجر الرواية إلى غروبها، متجاوزاً الجغرافيا المُحاصرة، وكلّ العذابات، ما يجعل من “مشانق العتمة” رواية حقيقية في زمن الاستسهال السردي.
والرواية تدور في فلك شخصيات فلسطينية وسورية: “هاجر”، و”سراب”، و”ابن رشد”، و”يونس”، وهتلر”، وهي التي حملت عناوين فصول الرواية أسماءها، وتناوبت هي ذاتها على الإمساك بقصبة السرد.
و”هاجر” فلسطينية من غزة، تبدو في مطلع الرواية مع طفلها على متن قارب يحوي أربعين من المهاجرين غير الشرعيّين في طريقهم إلى جزيرة يونانية، في حين أن “سراب” سورية حلبيّة تتعرف إلى رجل ذات لقاء عابر في أحد شوارع المدينة وتنشأ بينهما علاقة عاطفية تُتوّج بالزواج، أما “ابن رشد” فهو أسير محرر من غزة بعد سنوات اعتقال طويلة، يعمل بعد خروجه في جهاز أمني إبّان “الانقلاب في غزة”، ويُعجب بطالبة جامعية كانت تحتج مع زملائها ضد الانقسام، ومع أن بينهما اختلافا فكريا وسياسيا، إلا أنه يتوجّه لخطبتها.
و”يونس” شاب فلسطيني ولد لأسرة تعمل في المملكة العربية السعودية بعيداً عن أرض أجداده في يافا، وحيث أسرته الممتدة في غزة، التي يعود إليها مُجبراً، لكونه وحسب قوانين المملكة لا يحق له إكمال دراسته الجامعية فيها، بعد الانتهاء من الدراسة الثانوية، في أن حكاية “هتلر” السوري، تبدأ بتركه طفله جهاد في المستشفى، عقب إصابته بنزلة معوية حادة، حيث توجّه لاجتماع طارئ باستدعاء من قائد سريّته، بعد أنباء عن “أحداث فلتان وفوضى تقترب من الوطن سورية”.
مع توالي تقليب الصفحات يكتشف القارئ أن “يونس” هو زوج “هاجر”، الذي يهاجر مجدداً إلى السعودية للعمل بعد أن ينهي دراسته الجامعية في قطاع غزة، دون أن يتأقلم مع الأوضاع الكارثية فيه ما قبل الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب، وما بعد الانقسام، ليعود ويُغادر المملكة في أعقاب سجنه، وتعرضه للتحقيق والتعذيب، بتهمة “الإرهاب”، التي كان ينفيها، مؤكداً أن الحوالات المالية التي كان يُرسلها بانتظام لابن عمّه، هي لأغراض ابتياع شقة له في القطاع، وهو ما كان بالفعل، قبل أن تقرّر السلطات هناك فصله من عمله، ومنحه ثلاثة أشهر لمغادرة البلاد، فيقرّر التوجه إلى تركيا، ومنها برفقة زوجته وطفله كمهاجرين غير شرعيّين إلى اليونان.
كما نجد أن “هاجر” ابنة حركة “فتح” كانت متزوجة قبل “يونس” من “ابن رشد” أو “حذيفة” الذي ينتمي لحركة “حماس”، وتحرر في “صفقة الأحرار” أو “صفقة شاليت”، ويتميّز بفكر معتدل غير متشدد، وتعدّد قراءاته، ما كان يثير استهجان الكثيرين من حوله، بل كان من بين معارضي الانقسام، حتى أنه في واحدة من نقاشاته مع زوجته، يتساءل مُستهجناً: “برأيك لماذا أصرّ الرئيس على مشاركة (حماس) بالانتخابات التشريعية؟ ومن الذي أقنع حركة حماس بذلك؟ ولماذا فرضت كونداليزا رايس على رئيس الوزراء الصهيوني شارون أن يسمح بالانتخابات في القدس؟ وكيف تمّت تهيئة الظروف والأجواء لإحداث الاقتتال الداخلي بعد ذلك؟ من الذي دفع (حماس) للسيطرة على قطاع غزة؟ ولماذا ساهمت بعض الدول العربية والإقليمية بتعزيز واقع الانفصال؟ ثم لماذا تم قطع رواتب الموظفين بعد أن طلبت السلطة منهم الاستنكاف عن العمل والجلوس في بيوتهم؟ لماذا تركت السلطة قطاع غزة وحيداً، ومارست كل أنواع الإقصاء والتهميش بحق أهله؟.. باختصار يا عزيزتي، سمحوا لـ(حماس) بالسيطرة على جميع مفاصل القطاع، كي تصل إلى واقع يصعب الخروج منه، واقع يدفعنا لخسارة كل شيء”.
يرزقان “ابن رشد” و”هاجر” بطفلة يسميانها “فلسطين” وتعاني من إعاقة وشلل دماغي، بل وتحتاج إلى العلاج خارج غزة، لكونه نشيطاً في “حماس” يتعذر عليها مغادرة القطاع، فترافقها والدتها إلى مصر، وبينما هما هناك، تبلغه حركته بأنه على قائمة الاغتيالات، وعليه التوجه إلى الأنفاق فوراً.
“قضيت ردحاً من الزمن داخل السجون لأخرج من بيئة ملوثة بالكراهية، أحاول الإصلاح ولا أجدني إلا هامشاً أسفل صفحة مليئة بالكلمات المنمقة دون فائدة، سخرية القيادة ومحاربتي لأنني أعارض قراراتهم رغم مكانتي التنظيمية، فأنا المتفذلك المليء بالأفكار المشبوهة في المجلس، طيب القلب، ابن رشد الفاسد بعقله وربّما الحلاج العظيم، كما ظلوا ينادونني عند عودتي من السجن، فأشعر بنشوة وفخر، أشعر الآن بفخر أنني متخلف، ألتمس عذراً للرئيس والحكومة ولـ”فتح” التي لا أجد معها أي خلاف، ولا أقبل رفع السلاح في وجوه أعضائها.. أختلف مع اليسار وأطالب باحتوائهم، يسخرون: كيف لليمين واليسار أن يلتقيا؟ ولا يعلمون أن الوطن نقطة الوحدة الأصيلة، إنني هامش ملوث مريض في بيئة بات يكثر فيها الذباب.. قلبي ممتلئ بالحب والسلام، والتصالح مع الذات والآخرين، فأنجدني يا الله بما أنا فيه”.
تكشف لنا “هاجر” سرّها، ساردة: “تركتُ فلسطين في غزة، وحذيفة في التراب بمقبرة الشهداء (…) لأكثر من شهر بقيتُ غير مصدقة ما جرى، والناس تحكي الواقع وتصنع القصص.. قالوا إنهم اغتالوه لأنه يخالفهم الرأي، قالوا إنه خائن وعميل، أطلقوا النار على رأسه كما فعلوا مع غيره من أبناء التنظيم في البحر أو داخل الشقق، فكيف يكون الكلام صحيحاً، وقد انبرت كل قيادة حركته لزيارتنا ومساعدتنا بكل ما يلزم؟ كيف وقد جاء رئيس مكتبهم السياسي لمواساتي قائلاً، إن الحركة على أتم الاستعداد لبناء بيت خاص لي، وطبيب يتابع حالة ابنتي المعاقة، بخلاف الشقة التي تركها لي سيدي ومولاي ابن رشد؟”.
أما “سراب” التي قُتل والدها على يد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وشقيقه رفعت في مجازر حماة العام 1982، فتزوجت من “يزيد” الذي يتضح أنه كان يُخفي عنها طبيعة عمله كشرطي، وما بعد إرهاصات ثورة 2011 تحوّل إلى واحد من أبرز محققي الدولة السورية، لقناعته بأن “سورية تشتعل”، وعليه “دخلتْ قواتنا المدن وقمعت الاحتجاجات ثم قصفت بعض المناطق المتمردة.. اعتدتُ الدم والقتل والاغتصاب وتعذيب السجناء.. صرتُ أبرز محققي سجون الدولة ضد الإرهابيّين والمتمرّدين، أصبح الجميع يعرفونني المحقق هتلر، دون معرفتهم باسمي وشكلي”.
وحين اكتشفت “سراب” حقيقة زوجها، الذي بات محققاً بارزاً في الاستخبارات العسكرية السورية، يقتل ويغتصب ويعذب، وكان أبلغ عنها قبل زواجهما بمعارضتها للنظام، ما أدى لاعتقالها عشرة أيام قبل تدخله بالإفراج عنها، قرّرت الهجرة من سورية، والفرار منه، وهو ما كان لها بمساعدة شقيقها الذي هرّبها لتختفي عن زوجها، ومن ثم فرّت برفقة جيران منزل الجدّة حيث كانت تختبئ من بطش “هتلر”، إلى تركيا، ومن هناك على متن القارب إلى الجزيرة اليونانية.
تتجمع الفلسطينية الغزيّة “هاجر” وزوجها “يونس” وطفلهما مع السورية الحلبيّة “سراب” وطفلها على متن القارب المتجه من تركيا إلى اليونان، إلا أن “هتلر” الذي بات مُهربّاً بعد إقصائه من عمله في الأمن السوري لتسببه بالحرج الشديد لمرؤوسيه يتحرش بالفلسطينية التي تصدّه، ويطلب زوجها من شريكه الانتقال إلى قارب آخر، وهو ما تفعله زوجته “سراب” التي تلمحه، فترتدي “النقاب”، وتنقل إلى ذات قارب “هاجر” و”يونس”، إلا أن “هتلر” يشكّ في أمرها، فيطلق النار على القارب!
ويقارب الغول في “مشانق العتمة” ما بين واقع سورية، وتحديداً المناطق التي بات يستهدفها النظام بالبراميل وغيرها، وحالة الفساد المستشرية من رشاوى، علاوة على القمع والتعذيب والقتل والبطش لأسباب تتعلق بإحكام سطوة السيادة على الحكم، والتمسك بكراسيه، وما بين واقع غزة التي رأى أنها تعاني حالة مشابهة، خاصة ما بعد الانقسام وسيطرة حركة “حماس” على القطاع.
وما بعد النهاية وفي صبيحة أحد أيام الثلاثاء، وتحديداً بعد عام ونصف العام من غرق القارب، وصلت رسالة إلى مقر وزارة الخارجية اليونانية، تشكر فيها سيدة عربية خفر السواحل، لدورهم العظيم بإنقاذها من براثن الموت بعد أن كادت تضيع بين جثث الغرقى، ثم ساهموا، لاحقاً، بإحضار جميع متعلقات زوجها وطفلها وصديقتها الحلبية على متن رحلة العذاب، لتخرج إلى العالم بأول معرض فني لها في بروكسل، بعنوان: ملابس تنجو من الموت”، علماً أن عنوان المعرض هو عنوان الرواية الصادرة حديثاً ليسري الغول، عن ذات الناشر، والناجية بأعجوبة من حرب الإبادة التي تدخل شهرها السابع على غزة.