كتب د. مصطفى يوسف اللداوي:
على مدى ثلاثة أيامٍ متواليةٍ قد انتهت، هي أيام العزاء المضنية للروح والجسد، التي نظمت في العاصمة القطرية الدوحة، للرجال في سرادق كبيرٍ قد نصب من أجله، وجهز لهذه المناسبة الحزينة الأليمة، وخصصت له مساحة كبيرة من الأرض، ضمن إجراءاتٍ أمنية خاصة، وأسباب حمايةٍ مشددة، ورعايةٍ قطريةٍ كريمةٍ، حيث أَمَّه آلاف المعزين من المواطنين القطريين والمقيمين، وآخرون قد جاؤوا من كل حدبٍ وصوبٍ، من الجوار القريب ومن كل أنحاء عالمنا العربي والإسلامي القصي والبعيد، قدموا العزاء بأنفسهم، ونيابةٍ عن أهلهم وشعوبهم، بعضهم مثل بلاده رسمياً، وهم سفراءٌ نحبهم ونجلهم، ونقدر عالياً مشاركتهم، وغيرهم وهم كثير مثلوا شعوبهم الصادقة، وقدموا العزاء باسم أهلهم الذين يحبون فلسطين وأهلها، ويعشقون أرضها وقدسها، ويتألمون لما أصابها ونزل بها، ويتمنون نصرتها والدفاع عنها، والقتال مع أهلها والشهادة على أرضها.
وفي مكانٍ غير بعيدٍ، في بيت الشهيد الذي سيبقى مفتوحاً، ولن تغلق أبوابه باستشهاد سيده ورحيل صاحبه، الذي بناه ورفع بالمقاومة عماده، وأعلى بالصدق والتواضع أسواره، وحمى بالرفق واللين أهله وأحبابه، وربى فيه على المقاومة وحب الشهادة أولاده وأحفاده، كان بيت عزاءٍ آخر مهيبٌ وكبيرٌ، خصص للنساء، اللاتي أقبلن فرادى وزرافاتٍ، فلسطينيات وعربياتٌ، وأخرياتٌ من كل الجنسيات، يخفين حزنهن، ولا يقوين على حبس الدموع في عيونهن، التي ملأت المآقي وفجعت قلوبهن، فأظهرن من الحزن والألم ما أخفاه أزواجهن، وما تعالى عليه أبناؤهن.
إلا أن رفيقة دربه، زوجته وأم أولاده، أم العبد التي واكبته وعانت معه، وصبرت معه وما جزعت، وقدمت معه أبناءها وأحفادها وما وهنت، واحتسبت أجرهم عند الله عز وجلٍ، وبصمتٍ عليهم حزنت، وبعيداً عن العيون شوقاً إليهم بكت، استقبلت المعزيات برأسٍ عالٍ مرفوعٍ، ونفسٍ واثقةٍ غير مكلومةٍ، وكانت معهن كالطود الشامخ في مواجهة استشهاده، امرأة صابرةً محتسبة، حبست دمعها، ونهضت وكأنها ما كبت، وانتصبت أمام أبنائها والمعزيات تفخر بشهادة زوجها، التي أقبل عليها وكان يتهيأ لها من قبل معها، وقد قال لها مراراً تهيأي لملاقاة الله عز وجل، وصحبة رسوله الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أراني إلا شهيداً ها هنا، في هذا البيت وفي هذه البلاد.
وفي ركنٍ قصيٍ في سرادق العزاء، وغير بعيدٍ في بيت الشهيد، كنت أرقب ثلةً من الشبان المتقدين حماسةً وقوةً، المشرقة وجوههم، البهية هيئاتهم، المتلحفين بالصمت والمتوارين بأسفٍ، يبحث عنهم الجميع ويسألون، ويذهبون إليهم حيث يقفون ويصطفون، يصافحونهم ولهم يقدمون العزاء، ويقفون معهم بصمتٍ وخشوعٍ، وتقديرٍ واحترامٍ، عرفت أنهم مرافقو الشهيد ومساعدوه، وفريق عمله ومستشاروه، والعاملون في مكتبه والمتابعون لمهامه، وإخوة الشهيد وسيم أبو شعبان، الذي قضى مع الشهيد اصطفاءً، واختاره الله عز وجل من بينهم انتقاءً.
رأيت الحزن يسكن عيونهم، والأسى يطغى على وجوههم، وقد كساهم الألم والوجوم، والحسرة والهموم، فقد رحل والدهم، وغاب سيدهم، وفقدوا أخاهم، وسبقهم إلى جنان الخلد من رباهم، وشعروا بالخيمة التي ظللتهم سنين طويلة قد سقط عمادها، وانهارت فجأةً ساريتها، وهم الذين تعاهدوا على حمايته والتضحية بأرواحهم دونه، وقد رأوا صدقه وإخلاصه، وتفانيه وتجرده، ورحمته ورأفته، ولينه ورقته.
قد عرفوه صغاراً، ورافقوه منذ أن اشتد عودهم، وقرروا العمل معه وإلى جانبه، فأصبحوا مرافقين له طول عمرهم، ومضى عليهم أكثر من خمس عشر سنة وهم في صحبته، في غزة والدوحة، وفي كل مكانٍ يذهب إليه زائراً أو يقيم فيه عملاً، وقد اعتادوا العيش معه وبرفقته، يحرسونه بأرواحهم ويحمونه بمهجهم، ولا يغيبون عنه برهةً من زمانهم ولا ساعةً من أيامهم.
يخفون إليه قبل أن يدعوهم، ويلتفون حوله كأنه أبوهم، يحنو عليهم ويسأل عنهم، يتفقدهم ويزورهم، يهتم بشؤونهم ويعنى بحاجاتهم، يجلس معهم ويسامرهم، يصلي معهم ويؤمهم، ويسبقهم إلى موائدهم ويقدم الطعام لهم، يتفقد غائبهم، ويهتم لمريضهم، ويسأل عن حاجة كلٍ منهم، كأنهم أولاده، أو بعض أهله، وهم في جلهم من أهل بيته العزيز وسكان مخيمه الأصيل، مخيم الشاطئ الذي جمعه بهم وعرفه عليهم، واستبقاهم إلى جانبه منه، يذكرونه به، ويأنس لوجودهم معه، وكأنه ما زال معهم في مخيمه لم يفارقه، وبين أهله لم يغادرهم.
أما همامٌ وعبد السلام، فقد كانا على قدر المحنة والابتلاء، تصدرا المعزين، ووقفا ثابتين في استقبال المهنئين، وكانا قد صَبَّرا أهلهما والمحبين، واحتسبا عند الله عز وجل والدهما كأعظم شهيد، ووقفا في مواجهة التحديات والتصدي للاستحقاقات القادمة كأعظم ما يكون أبناء الشهداء، الذين لا يروعهم الخطب، ولا يخرجهم عن طورهم الجزع، ولا يقعدهم الفقد أو يضعف نفوسهم الرحيل، وقد أحسن عبد السلام خاتمة العزاء، فكانت كلمته شاملة، ومعانيها كاملة، ورسائلها كثيرة، وأبعادها استراتيجية، ورؤيتها بصيرة، وثقتها بالله عز وجل كبيرة.
قد كانا فخورين بأبيهما، سعداء بما تراه عيونهما، وهم يرون آلاف المعزين، وآلاف المتصلين، ويسمعون عن مئات ملايين المسلمين وقد صلوا في بلادهم صلاة الغائب على أبيهم، في سابقةٍ لم يشهد مثلها المسلمون من قبل، وكأن شهادته كانت نصراً، واغتياله كان فتحاً.
وفي الأقصى كان اسم أبيهم علماً، يرج الأرض ويرتفع إلى الجوزاء علواً، يغيظ العدو ويقهر الاحتلال، ولا يأبه بعقابهم ولا يخاف إجراءاتهم شيخ الأقصى وإمامه، الذي دعا له وصلى عليه، واستبشر بشهادته وتوعد قاتله بيومٍ فيه على جرائمه يندم، وتحل عليه اللعنة قريباً ويرحل.
رحمة الله عليك أبا العبد، نستودعك الله عز وجل وقد سلمت الأمانة كاملةً، ورحلت وما فرطت فيها ولا هنت، وحافظت عليها وما استسلمت، وحمل الراية من بعدك خلفك، القوي الأمين، الصادق الوعد المتين، وأخذ الكتاب بقوةٍ، ومضى على عهدك بثقةٍ ويقينٍ، فسلام الله عليك في الخالدين، وعلى رفيقك وسيم، وغفر لك ووفق من بعدك، وكان معهم وأيدهم، وأخذ بأيديهم ونصرهم وبه أعزهم.