مشاهير السوشال ميديا يتصدرون مشاهد التفاهة .. والنخب يتراجعون #عاجل

خلاف التوقعات والمأمول، ومع تزايد المحتوى الذي يمكن وصفه بـ«التافه» في كثير من وسائل التواصل الاجتماعي التي صنعت مشاهير رقّاهم البعض إلى مستوى «نجوم» رغم ضحالة ما يقدمونه، فتحت وسائل الإعلام الخاصة وحتى الرسمية أذرعتها أمام هؤلاء، ومنحتهم فرص انتشار أوسع، وكأنها تمنح ما يقدمونه شهادة تقدير واعتراف رسميين لم يكونوا ليحلموا بهما، حيث بات هؤلاء يتواجدون في كثير من البرامج، وعبر كثير من المناسبات فانتقل عبثهم من صفحاتهم الخاصة على وسائل التواصل إلى الميدان الفضائي الذي وجدوه مفتوحًا أمامهم، فلا هم ارتقوا إلى ما يليق به، ولا القائمون على ذلك الفضاء عرفوا كيف يحافظون عليه راقيًا بعيدًا عن الإسفاف.

ومع ارتفاع الأمثلة الحية لمن يسمون أنفسهم «مشاهير»، توالت الأعداد المتتالية تباعًا في تصدير بعض القنوات الفضائية لهم ولتفاهة ما يقدمونه، في مشهد لم يعد محل صدفة بقدر ما صار نهجًا سائدًا، حتى اختلط تافهه بجدية ما يجب على وسائل الإعلام الخاص والرسمي أن يقدمه للمتابع، وأن تكون غايته الأولى زيادة وعيه والارتقاء بمعارفه.

مفهوم التفاهة

اكتسبت التفاهة في العصر الحالي مفهومًا جديدًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من غياب التعريف الجامع لها، إلا أنها تعني في العموم «تسطيح الأمور الجادة وتحويلها إلى حالة من التفاهة والسطحية»، خصوصًا مع تحول وسائل التواصل الاجتماعي لتكون منبرًا لمن لا منبر له.

وحتى لا يتصور كثيرون أن التفاهة في وسائل التواصل الاجتماعي هي علة محلية، نشير إلى أنها ظاهرة عالمية، يعللها محللون بأنها تعود إلى انهيار أساسات التفكير العلمي، وغياب الاجتهاد في الرجوع إلى المصادر الأصيلة للتيقن من أمر ما، ومحاولة أشباه المثقفين أن يعطوا أنفسهم عمقًا أكثر مما يستحقونه، ورغبة آخرين من الصاعدين على منابر وسائل التواصل في طرح أنفسهم كأنهم مؤسسون وقدوات للأجيال الحالية اللاحقة، يغرهم الضجيج الذي يثيرونه حولهم ويتجاوب معه سطحيون مثلهم.

وحين يتلقف الإعلام الرسمي والخاص مثل التلفزيونات والإذاعات هؤلاء، فإنه يسهم بدوره في تعميم حالة التجهيل المنظم.

ويشدد متابعون على أن وصف «التفاهة» هنا ليس «شتيمة» بل هو وصف لمن يتدخل فيما لا يعرف، أو وصف لـ«التافه الذي يتكلم بأمر العامة»، والذي يتحدث في أي موضوع دون الرجوع لمراجع صحيحة ودقيقة، ودون بحث وعناء، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد ثرثرة فارغة يصدرها شخص جاهل سطحي يحكم ويقرر ويتحدث كأنه يقرر حقائق.

مسؤوليات أخلاقية

يرى أستاذ علم الاجتماع الدكتور عبدالله الفوزان في حديثه لـ«الوطن» أن «استعانة وسائل الإعلام بالمشاهير ذوي المحتوى الرديء يتعارض مع مسؤولياتها الأخلاقية كوسائل تربية وتوجيه وتنشئة اجتماعية تسهم في بناء الإنسان المثقف والفاعل في مسيرة التنمية وتعزيز القيم الاجتماعية الإيجابية».

ولفت إلى أن «هناك بعض وسائل الإعلام التي تبحث عن الإثارة ولفت الانتباه إليها، وترى في استضافتها لهؤلاء المشاهير حتى مع ضعف وسوء المحتوى الذي يقدمونه تسويقًا لها، لكنها تنسى أنها بتقديم النماذج الفارغة من المشاهير للرأي العام إنما تفقد احترامها وربما عزوف الجماهير عن مشاهدتها، حيث يمكن للجمهور الواعي أن يقف منها موقفًا سلبيًا».

وحول ما إن كان عزوف المختصين عن الظهور في وسائل الإعلام قد اضطرها إلى اللجوء للمتوفر من غيرهم، قال «قد يكون لعزوف المختصين عن المشهد أثره في لجوء بعض وسائل الإعلام إلى غير المتخصصين وأصحاب المحتوى السيئ، وهذا خطر على الأجيال التي يعوّل عليهم المجتمع في البناء والمنافسة وإدارة دفة التنمية، حيث يسهم أصحاب المحتوى المتواضع في صناعة أجيال اهتمامات سطحية ولا يعتمد عليها لا في خدمة دينها ووطنها ومجتمعها، بل وحتى في خدمة أنفسها وأسرها».

وتابع «القنوات الفضائية ووسائل الإعلام المختلفة أصبحت في عصرنا الراهن من بين أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية لأفراد المجتمع، فما تعرضه من مواد إعلامية يتأثر به الجميع إيجابًا أو سلبًا، ولذلك لديها مسؤولية تربوية وأخلاقية في البناء الفكري لمشاهديها».

عالم مفتوح

يقر الفوزان أننا في عالم مفتوح يصعب معه التحكم بالمحتوى، خصوصًا مع تعدد وتنوع القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، ويقول «مع ذلك يمكن الحد من الآثار السلبية لهذا العالم المفتوح على أفراد المجتمع عبر تقديم محتوى جيد ينسجم مع قيم المجتمع من قبل القنوات المحلية».

مضيفًا «تعزيز الوعي لدى الأفراد والمشاهير في نشر المحتوى المفيد والبعد عن كل ما من شأنه انتهاك قيم المجتمع وعاداته وتقاليده الحميدة أمر مهم للغاية ولا بد أن يكون من الأولويات».

وتابع «لا بد من وضع تشريعات كفيلة بالحد من نشر المحتوى السيئ والخادش للحياء عبر هذه المنصات، وتقديم الخارجين عن هذه التشريعات للعدالة والمساءلة القانونية».

ويفند الفوزان المشاهير فلا يضعهم جميعًا في كفة واحدة، ويقول «بالنظر إلى واقع المشاهير فلا يمكن وضعهم جميعًا في سلة واحدة، فهناك من هم أهل لتصدر المشهد الفكري والثقافي ويملكون الفكر النير ولديهم إحساس كبير بالمسؤولية، وهؤلاء يستحقون تقديمهم كنماذج وقدوات حسنة لأفراد المجتمع، وهناك أيضًا من لا يملكون الفكر، ولا الثقافة، ولا الإحساس بالمسؤولية، وهم يقدمون محتوى سيئًا ينتهك منظومة القيم السائدة، ويجعلون من أنفسهم نماذج للجيل الناشئ، وهؤلاء يفسدون الذوق العام، وعلى وسائل الإعلام ألا تصنع منهم مشاهير، ولا قدوات، بل لا بد أن تتم مساءلتهم على محتوياتهم المسيئة أو التي تمس ثوابت المجتمع أو تهدد أمنه واستقراره».

متابعة السخافات

يشدد المستشار الإعلامي ماجد الغامدي في حديث لـ«الوطن» على أن من يقوم بتصدير المشاهير للتأثير في الرأي العام هو المجتمع في حقيقة الأمر، وذلك من خلال متابعة كل سخافة تصدر من بعضهم، ومن ثم تناقلها، وكأن هذه السخافات هي الأهم، فيبدأ الراغبون في الشهرة بتقليد تلك السخافات فتعم، وقال «تنتشر سخافة المحتوى في منصات التواصل الاجتماعي وكأنها هي الأصل، وكأن المحتوى الرصين هو الشاذ».

وأضاف «هناك استهلاك يومي كبير للمحتوى الإعلامي سواء محتوى منصات التواصل الاجتماعي (سناب شات – يوتيوب – تويتر – فيس بوك – انستجرام..) في الصباح والمساء وفي كل وقت، ونتج عن ذلك إدمان الجوال حتى أصبح مثل مرض يُعرف علميًا بـ(النوموفوبيا Nomophobia)‏ ويعني رهاب فقدان الهاتف الجوال الذي أصبح في أيدي الناس طوال الوقت وأكثر الوقت في منصات التواصل الاجتماعي».

وأوضح أن معدي البرامج التلفزيونية هم جزء من المجتمع، ويتأثرون بما يرونه وينقلونه إلى عملهم وإلى اختيار ضيوفهم ومواضيعهم، بينما الأصل أن يقودوا الرأي العام من خلال هذه البرامج التلفزيونية بمواضيع رصينة، وقال «الشاشة هي منبر المصداقية، وبها قوة الكلمة وهي صانعة القيم، فلذلك لها خط مميز ورصين عن اليوتيوب والسناب شات وغيرهما»، متسائلاً «هل فقدان الشاشة التلفزيونية الجماهيرية جعلها تبدأ البحث عن الجماهيرية عبر نجوم (السوشال ميديا) باستضافتهم، بل جعلهم مقدمين لبعض برامجها؟ لذلك يجب أن تتم الاستفادة من التجارب العالمية في المحافظة على قوة البرامج التلفزيونية التي ما زالت تعيش في تجدد مستمر وتأثير قوي».

وأشار إلى أن عزوف صانعي المحتوى المميز البعيد عن السخافات قد يكون سببًا رئيسًا في أن الساحة أصبحت شبه فارغة لكثير من مشاهير الصدفة، ما نتج عنه محتوى ساذج، وفي بعض الأحيان غير لائق ولا يُمثّل المجتمع السعودي، موضحًا أن «جميع أنواع المحتوى البعيدة عن السخافة والتي لا تعارض الدين ولا القيم، ومن المحتوى الذي يجب التركيز عليه في هذه الفترة هو المحتوى الوطني الذي يفخر بإنجازات الوطن، ويجعل الجميع يعمل بجد واجتهاد في اتجاه رؤية 2030 وينشر بكل سعادة هذه الطموحات الكبيرة وهو يردد طموحنا عنان السماء».

تحول رقمي

من جانبها، رفضت الباحثة في الإعلام لارين المطيري، أن يكون سبب إفساح القنوات التلفزيونية والإذاعية الفرص لمشاهير وسائل التواصل الاجتماعي هو عزوف المتخصصين عن الظهور فيها، وقالت لـ«الوطن» «ليس الأمر عزوفًا للمتخصصين، بقدر ما هو تحول القنوات التلفزيونية نحو الإعلام الرقمي الجديد، فاليوم أصبحنا نشاهد هذه القنوات ببث حي ومباشر على منصة اليوتيوب، لتعطينا صفة الفورية والحفظ في البرامج التي تبثها حتى يمكن الرجوع إليها في أي وقت».

وأكدت أن «مشكلة ضعف الكوادر تكمن في سوء الاختيار والإعداد، فعند إتاحة فرصة الظهور لهؤلاء التافهين في القنوات التلفزيونية تكتسي المحطات المانحة بميزة سلبية وبتواضع وضعف الكادر، كما يقلل من مستوى رقي القناة ذاتها».

لكنها تستدرك وتقول «على الرغم من كل هذا، فلا بأس من انتقال بعض اليوتيوبرز إلى شاشات التلفزيون في حال كان محتواهم الذي يعرض على اليوتيوب يليق بمستوى القناة، ولا بد من وضع شروط لظهور هذه الفئة على التلفزيون وبالتحديد القنوات المحلية الرسمية».

ونوهت المطيري إلى أنه «يجب على القنوات الفضائية أن تعد برامج خاصة وحصرية بحيث تكون فقط عبر هذه المحطات، وفي هذه الحالة ستتميز هذه البرامج عما تقدمه وسائل الإعلام الجديد، وكذلك يجب أن تركز في هويتها وتضعها محور اهتماماتها وتعزز من القيم والمبادئ الأخلاقية فهي صورة المجتمع المنتمية له، خاصة ونحن نعلم اليوم أن الجميع لا يستغني عن منصات وسائل التواصل الاجتماعي، لذلك الأفكار والأحداث، بل وحتى اهتمامات المجتمع نفسه نجدها بشكل هشتاقات متصدرة الترند، ولذلك تلجأ القنوات لأخذ هذه المواضيع والأفكار لتكون عناوين برامجها، وعندما تستضيف القنوات في برامجها هذه النماذج المشهورة المتصدرة ترند فهي بذلك تزيد من نسبة الجمهور والمشاهدة في وقت يدور فيه حديث عن أن وسائل الإعلام القديمة قد اندثرت، وهذا يعطي لها قيمة حقيقية من ناحية المشاهدة وصناعة المحتوى الجذاب».

وفرقت المطيري بين القنوات الرسمية والخاصة، وقالت «من المؤكد أن هناك فوارق بينها، فالقناة الرسمية أو المحلية يجب أن تلتزم بمعايير ثابتة عكس القنوات الخاصة التي نتوقع منها أي شيء، فهنا يكمن الفارق بينهما، لذلك من المهم جدًا أن تعكس القنوات المحلية صورة وهوية وثقافة المجتمع الذي تنتمي إليه، ولا تتجاوز حدود ذلك في كل برامجها وموادها التي تقوم ببثها».

مبررات انتشار التفاهة

ـ وسائل التواصل الاجتماعي جعلت من التافهين رموزا.

ـ مشاهير وسائل التواصل يحتلون الساحة كنجوم بدلا من العلماء والأدباء والشعراء والمثقفين.

ـ غياب المؤسسات الثقافية والإعلامية عن إعداد وتنفيذ برامج ترتقي بالذائقة العامة.

ـ تزايد برامج «التهريج» وتقديم مضامين رديئة.

ـ تبرير القائمين على المؤسسات الإعلامية للأمر بـ«الجمهور يريد هذا».

ـ البحث عن زيادة نسب المشاهدة على حساب المستوى.

ـ المحتويات التافهة تحقق في ساعات قليلة ملايين المشاهدات.

ـ أصبح الابتذال هو السائد ويضرب بجذور القيم الأخلاقية.

ـ السماح بتمرير رسائل وإيحاءات غير لائقة تحت غطاء الكوميديا.

لماذا تنتشر التفاهة بسرعة

ـ هناك ترويج كبير للبرامج والسلع التافهة.

ـ ترويج فكرة تقيم قيمة المحتوى على أساس المشاهدات بغض النظر عن قيمته الفكرية.

ـ مجانية التفاهة، حيث لا يدفع مقابلها شيء.

ـ تسيس التفاهة عبر إنتاج برامج تافهة والهروب من الواقع.

ـ تنمر التافهين، وتغلغلهم جعلهم يتنمرون على البقية لشعورهم أنهم الأفضل.

آليات لتجاوز الإشكالية

ـ تدخل حكومي يعاقب على نشر المحتوى التافه.

ـ التركيز الإعلامي على مواد التربية الأخلاقية.

ـ حرص الإعلام على عدم الترويج ونشر المحتويات التافهة.

ـ التوعية والتأكيد على استعمال العقل في القضايا العامة والشأن العام.