معاريف – بقلم: جاكي خوجي “أراد رئيس الوزراء أن يهنئ فخرج يشتم. في خطابه في الأمم المتحدة، الذي ألقاه عشية فرحة التوراة، قال نفتالي بينيت إن المواطنين الإسرائيليين لا ينهضون في الصباح ويفكرون في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. وكان يريد أن يقول إننا لا نبحث عن شقاق أو حرب، بل ننشغل بأمورنا اليومية بحثاً عن مستقبل أفضل لأولادنا. لو وقفت هذه الكلمات على حد ذاتها لرأينا فيها ثناء على سعي الإسرائيلي العادي إلى السلام، ولكنه في خطابه كله الذي استمر 24 دقيقة، لم يذكر المسألة الفلسطينية على الإطلاق.
وقال محللون إسرائيليون في تحليلهم لخطاب بينيت البكر في الأمم المتحدة ، إنه تحدث بأسلوبه، المنضبط والموضوعي، ولكن مضامينه تشبه تلك التي عبر عنها نتنياهو. سار بينيت شوطاً أبعد من سلفه؛ فقد درج نتنياهو بين الحين والآخر على طرح حلول للنزاع واعترف بالحاجة إلى الحل: سلام اقتصادي، سلام جزئي، خطة ترامب. أما بينيت بالمقابل، فأزال المشكلة عن الطاولة تماماً، وعن وعي.
في الأحاديث المغلقة، يدعي بينيت بأن الجميع تناولوا إسرائيل والفلسطينيين كتوأمين سياميين، ولا سبب يدعو لمواصلة ذلك. في لقاء مع الصحافيين في نيويورك، أضاف بأن الانشغال بالقناة الفلسطينية على مدى السنين هو انشغال مهووس، ومن الأفضل تبريده بتطوير العلاقات مع الدول العربية.
سر علني
منذ اتفاقات أوسلو، تشارك ثلاثة أطراف، وهم: إسرائيل والسلطة والأمريكيون، سراً علنياً. حتى لو كانت المفاوضات عالقة، فقد كان من الواجب إصدار أصوات سلام. الحديث عن القناة الفلسطينية، وإرسال المبعوثين، وعقد مؤتمرات أو مجرد لقاء مسؤول ما في عاصمة أوروبية باردة وتسريب المعلومة إلى صحيفة مهمة… كل ذلك لإعطاء أمل للشارع الفلسطيني. إذا لم نتمكن من توفير الأمر الحقيقي له، ولا سيما لجيل الشباب الجائع واليائس، فسنوتر أعصابه ونسد في وجهه الأفق ويرتفع في أوساطه احتمال الاضطرابات.
عندما تختار حكومة إسرائيل علناً إخفاء قناة المحادثات، فإن الفلسطيني المتوسط، بخلاف الإسرائيلي، سيترجم هذا كإعطاء ضوء أخضر لـ”فتيان التلال”، وسيفهم بأن الحواجز بين المدن ستبقى، والطرق المنفصلة ستتسع، والأراضي ستصادر، وستبقى غزة تحت الإغلاق، وسيتواصل حرمان عرب شرقي القدس من الميزانيات. وسينهض ليفكر في النزاع كل صباح، ليس بسبب محبته له بل لأنه يراه أمام عينيه.
شائق أن نعرف ما الذي تفكر به الجهات المختصة في إسرائيل عن خيار رئيس الوزراء تجاهل المشكلة الفلسطينية. فهل شاركه في هذا الموقف الشاباك والجيش وكذا رئيس هيئة الأمن القومي؟ يعتقد المستشار المقرب لبينيت ايال حولتا، أنه يجب إزالتها عن الطاولة. ماذا يقول لرئيس المخابرات المصري عندما سيلتقيه قريباً، ويلتقي نظيره الأردني أو مبعوثي البيض الأبيض؟ لا أدري كيف ترى محافل الأمن هذا. فهل يقبلون بقراره باستسلام أم يتحدونه. ثمة تخوف معقول بأن مفهوماً مغلوطاً يتبلور أمام ناظرينا. ظاهراً، لم يكن وضعنا مستقراً بهذا القدر. الجيوش العربية التي قاتلت ضدنا في الماضي هي اليوم صديقة. السلطة ضعيفة وليس في وسعها قيادة خطوات احتجاج عنيفة، مثلما أجاد ياسر عرفات في عمله. لا تزال لأبو مازن ورجاله مصلحة في قمع حماس والجهاد الإسلامي، ولهذا فإنه يرى في إسرائيل شريكاً في المهمة. حماس حبيسة في القطاع، وآخر ما تحتاجه هو الحرب. تسيطر إسرائيل على الاقتصاد الفلسطيني في الضفة، وعلى وضع الاقتصاد في القطاع، وهي لا تتعرض لأي عقاب دولي تام لا من واشنطن لا من الاتحاد الأوروبي، وبالتأكيد لا من دول عربية تغازلها بحماسة. لقد انقضت الأيام التي كانت فيها السعودية، وسوريا، والقذافي، وصدام، ومبارك ورفاقهم يهاجمون إسرائيل كالجوقة على كل حركة لها في الحرم. إسرائيل قلعة، قال الملك عبد الله ذات مرة. وما كانت حاجة للملك كي يقال هذا. فنحن بالفعل نشعر ونتصرف كأرباب القصر.
هذا الأسبوع وقع في يدي صدفة عدد من “دفاتر للأولاد” من 25 كانون الثاني 1972. في الصفحة 3 نشر نبأ عن مظاهرات غضب في شوارع القاهرة ضد الرئيس أنور السادات. كانت فترة غير مستقرة، خمس حكومات تبدلت هناك في غضون أقل من سنة ونصف. وجاء في النبأ أن حكومة السادات حديثة العهد تتشكل من تكنوقراط بخلاف سابقتها التي سادت فيها شخصيات سياسية. استخلص المحللون بأن الحكومة الجديدة ستشدد على معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وتعطي رأياً أقل في شؤون الأمن. وأضاف كاتب النبأ بأنه “إذا ما تحقق هذا الاعتقاد بالفعل، فليس لإسرائيل أساس للأسف على ذلك”.
وهكذا فإن المفهوم المغلوط إياه وجد تعبيره حتى في صحيفة أطفال. اعتقد الكاتب الإسرائيلي بأن مصر غارقة في مشاكل داخلية معقدة، وبالتالي لن تنفذ تهديداتها بشن الحرب. هكذا فكر أيضاً كبار المسؤولين. غير أنه بالنسبة للسادات، كانت الحرب لاستعادة سيناء الحل وليست المشكلة، مثلما شهد في سيرته الذاتية التي نشرت بعد سنوات قليلة من ذلك. “أنا واثق بأن مفتاح كل شيء – من ناحية سياسية واقتصادية وعسكرية – هو إيجاد حل للوضع الذي نبع من هزيمة 1967. كانت المهمة الأساسية محو العار والمهانة”.
بادر السادات إلى حرب يوم الغفران مع صديقه الرئيس السوري حافظ الأسد. إذا كان متوقعاً اليوم خطر اشتعال في المناطق الفلسطينية، فمشكوك أن يأتي من القيادة. يكمن احتمال النار الكبرى بالضفة وشرقي القدس في نفوس الجمهور لا في زعمائه. فالخان الأحمر، وبيتا، ومفقرة… كل هذه ساحات مواجهة ساخنة، تثير الميدان وتشكل قنبلة موقوتة، بينما نعيش في إحساس من الأمن والاستقرار. ليته لا يأتي اليوم الذي يقرر فيه السكان الفلسطينيون بأن يكفي، فيتمردون بجموعهم لمشهد طفل ابن أربع سنوات ينزف بسبب شرخ في رأسه. هذا ما حصل هذا الأسبوع عقب أعمال شغب ليهود في جنوب جبل الخليل. لن يجدينا في هذه الحالة، لا بايدن، ولا السيسي، ولا رزم السياحة لدبي، أو سفارة لإسرائيل في البحرين فتحت أمس رسمياً. مبروك.