جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
حين هبط إعلان الوجبات السريعة الأول على سطح الحياة في مصر تليفزيونيا في السبعينيات كان ذلك تعبيرا مبكرا واضحا وتلقائيا أيضا عن بدء دخولنا مجال العولمة بلا تردد، وحيث تم ذلك خارج حدود الجدل عن معنى لفظها الفخيم وآثارها التي تفرغ الباحثون لتحليلها، بل دخلت العولمة عندنا عبر ما يأكله العالم “المتقدم” غربا، وهكذا بدأ الانفتاح قويا بشريحة البرجر وأصبع السوسيس ثم البيتزا، وحيث دوائر البرجر تتوسط شطيرتين من الخبز من غير ضرورة في أن تكون دوما طازجة بل هي دائما محفوظة يتم تجهيزها في دقائق معدودات، ولتفرض إعادة تعريف كلمة “الساندوتش” من جديد في المعاجم والقواميس العربية.
أتذكر افتتاح الفرع الأول لسلاسل كانت شهيرة في السبعينيات، وكيف اصطف في صور الإعلانات المكررة يوميا كل من جذبهم الإلحاح المتكرر وأولئك المنبهرين، وحيث جاء إعلان البرجر متسلحا بكل ما هو مبهر ليقدم للمشاهد نمط حياة يبشر به ويصحبه، هذا المشاهد الذي عاش لا يعرف سوى ساندوتش الفول أو الطعمية طفلا وشابا وكهلا.
وفجأة دخل ساندوتش البرجر الأول يُقدم إعلانيا فخما ضخما شهيّ المنظر، مصحوبا بذلك التغليف الجديد والمدهش، والذي صار يصنع قطيعة مع ذاكرة الملل التي يحضر فيها متفردا مكررا ثابتا شكل ساندوتش الفول الموضوع في كل ما تيسر من ورق كراسات وكتب التلاميذ التي تذهب في نهاية العام لمحلات الطعام أو لبائع الروبابيكيا ويتولى توريدها لمحلات الفول، وقد تعثر وأنت تفتح الورقة التي تضم الساندوتش على صفحة من كراسة إملاء عليها الدرجة بخط جاف أحمر أو حتى صفحة من كتاب العلوم المدرسي المقرر.
كان الإبهار والإيحاء بالاختلاف والتميز عنصرا ضروريا في إعلانات الهامبورجر الوافدة لإزاحة ما هو مستقر من تقاليد الطعام المصرية الراسخة، وحيث عاصر الإقبال على الهامبرجر انتشار واسع نسبيا لدى الشباب لأغاني الفرق الموسيقية الغربية عبر الكاسيت، حتى استقر البرجر تصحبه أخته الكولا على عرش طعام “الشارع” ودخل وعرفه كل بيت، بحيث صارت المشروبات الطبيعية “القديمة” تنسحب رويدا، والتي هي مما تنبت الأرض كالتمر والخروب والكركديه، لتصير غالبا مشروبات موسمية، وتمر الأيام ليأتي زمان لا يستطيع أحد فيه أن يقنع طفلا مثلا أن يتخلى عن زجاجة غازية ملونة ليقف مترددا كثيرا قبل أن خوض بشجاعة تجربة شرب العرقسوس أو الخروب أو التمر.
يتحول الكثير من العادات والتقاليد والثقافات مع تغير نوع الطعام والمشروبات، فمثلا مشروب العرقسوس والتمر والخروب هي بمثابة مشروب تصنعه الأسرة ويوضع في الأكواب ومن دورق واحد في أمسية واحدة أو جلسة طعام تجمع الكل، ودائما طازج، بينما زجاجة أو العلبة الغازية تؤخذ منفردة وتشرب في طقس أحادي صارم في تكراره، هكذا ستكرس وجبات السوسيس والهامبرجر فكرة الغياب المتقطع ثم الدائم بعد ذلك لأفراد الأسرة عن مواعيد الطعام المنتظمة في المنزل، بل وستنصح الأسر أولادها انشغالا أو محبة ولعدم القدرة على إقناعهم بالعودة لتناول الطعام المنزلى: إبقى هات لك بيتزا أو ساندوتش برجر.
مرت مرحلة هيمنة وانتشار الوجبات السريعة- من شرائح البيتزا والسوسيس والبرجر- بدورة حياة كان الإقصاء فيها لغيرها من المأكولات المحلية المعتادة مهما عقليا ودلاليا، وحيث تحول الكشرى إلى “أكلة بلدي” وفي عرف البعض “لوكال قوى” فضلا عن إشارة خفية إلى رائحة الثوم والبصل، كما مثل فيها إقصاء الفول والطعمية تعبيرا عن رفض ما يعرفه الآباء، تزامن مع كل ذلك سخرية انتشرت عن أن الفول في العالم ليس فقط طعاما للبشر، وظهرت السخرية قاطعة بعد ذلك في مسرحية “المتزوجون” حين جاءت إهانة الفول قاضية.
مضت الآلة الإعلانية قوية تدفعها فورة الاستهلاك، وازدادات وتنوعت أسماء وفروع تلك المأكولات والمشروبات لتغزو بنعومة مستمرة مختلف الأقاليم والمدن الصغيرة، لتستقر قناعة بأنه لا شيء سواها سيروي عطشك، وليكون البشر عبر جغرافية الكون سواء ولو ظنوا أن بهم اختلافا.