حظي الاجتماع الذي عُقد الأسبوع الماضي بين بيني غانتس وزير الدفاع الإسرائيلي، ومحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، في منزل الأول، بمتابعةٍ صحفية وإعلامية مكثفة، وذلك لأنه كان أوَّل لقاء رسمي بين عباس ومسؤول إسرائيلي في إسرائيل منذ 11 عاماً.
وجَّه اليمين الإسرائيلي انتقادات لاذعة للاجتماع، وقال زئيف إلكين، وزير الإسكان والبناء وعضو في ائتلاف غانتس، إن “دعوة رجل يحرص على دفع رواتب لقتلة الإسرائيليين إلى بيتك هو خطأ في رأيي”. وأضاف إلكين: “والقول إنه لا بد من استضافة أبو مازن في غرفة جلوس غانتس الفسيحة، وإلا فستندلع انتفاضة فلسطينية ثالثة، أمرٌ لا يصدقه أحد”، حسب تعبيره.
وفي إشارة إلى الائتلاف الحاكم الذي يقوده حالياً نفتالي بينيت، رئيس الوزراء، وضمِّه بين صفوفه حزب “راعم” الذي يمثل الفلسطينيين في إسرائيل، ثم اجتماع غانتس مع عباس، قال حزب الليكود المعارض: “حكومة بينيت الإسرائيلية الفلسطينية تُعيد أبو مازن والفلسطينيين إلى جدول الأعمال”.
بعد المحادثات، أعلن غانتس عن مجموعة من المبادرات تجاه السلطة الفلسطينية، منها قرضٌ بقيمة 100 مليون شيكل (32 مليون دولار) من أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل نيابة عن السلطة، والاعتراف بإقامة 9500 فلسطيني كان يعيشون في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر بدون وثائق إسرائيلية، ومنح تصاريح دخول إلى إسرائيل لمجموعة محددة من رجال الأعمال الفلسطينيين وكبار الشخصيات في السلطة الفلسطينية.
في غضون ذلك، كان لدى عباس توقعات أخرى، وكان يأمل في إطلاق المفاوضات من جديد، والحصول على تطمينات من غانتس بأن الجيش الإسرائيلي سيكبح عنف المستوطنين المحتدم ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
الفوائد التي سيجنيها غانتس من الاجتماع مع عباس
وافق عباس على مقابلة غانتس في منزله، رغم أن وزير الدفاع الإسرائيلي معروف لدى الفلسطينيين بأنه مجرم حرب تفاخر بقتل 1364 فلسطينياً خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2014، وهي المعركة التي أطلقت عليها إسرائيل عملية “الجرف الصامد”.
لذلك، لم يحظ الاجتماع بالقبول شعبياً بين أي من الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، وهو ما يثير السؤال: ما الذي دفع غانتس إلى دعوة عباس وتقديم هذه “التنازلات الصغيرة”؟
يقول يقول موقع Middle East Eye البريطاني، إن الإجابة تكمن في السياسة التي انتهجها غانتس خلال الأشهر السبعة الماضية منذ أن تولت حكومة بينيت الوزارة. فمع أن حزب غانتس “أزرق أبيض” -المعروف أيضاً باسم “حزب الجنرالات”- ليس لديه إلا ثمانية مقاعد في الكنيست، فإنه نجح خلال هذه الفترة القصيرة في الدفع باتجاه مجموعة من السياسات التي تخدم مصالح قوات الأمن الإسرائيلية، وخاصة مصالح كبار القادة وشركات الأسلحة.
شملت هذه السياسات زيادة ميزانية وزارة الدفاع بنسبة 12%، ثم النجاح في تمرير 7.3 مليار شيكل (2.33 مليار دولار) إضافية غير مدرجة في الميزانية، تُخصَّص للجيش دون مراجعة لسبلِ إنفاقها وللاستخدام في أغراض سرية.
كما نجح غانتس في تمرير التراجع عن “إجراءين إصلاحيين”، أحدهما لتقصير مدة الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، والثاني لتقليص المعاشات السخية التي يتقاضاها الضباط المتقاعدون في سن مبكرة نسبياً.
بالإضافة إلى ذلك، أشرف غانتس على زيادة كبيرة في المدفوعات الشهرية للجنود النظاميين، وخصَّص مؤتمراً صحفياً طويلاً عقده الجيش الأسبوع الماضي لمناقشة الخطط الاستراتيجية لإسرائيل فيما يتعلق بإيران وحزب الله وحماس، للحديث بدلاً من ذلك عن وعوده بتقديم طعام ذي جودة أفضل لجنود الجيش الإسرائيلي.
تخفيف الضغط الأمني على الجيش الإسرائيلي
يقول موقع MEE إن جزءاً من الحملة التي شنَّها غانتس والقادة العسكريون الإسرائيليون كان لخدمة مصالح الجيش هو إعادة صياغة قواعد الاشتباك لكي تسمح لجنود الجيش الإسرائيلي باستخدام النيران القاتلة ضد الفلسطينيين العزل حتى أثناء محاولتهم الفرار، وهو ما لا يقل عن ترخيص مباشر بالقتل.
وفي معرض الحديث عن دوافع غانتس، قال ياجيل ليفي، الأكاديمي الإسرائيلي ومؤلف كتاب Whose Life is Worth More، للموقع البريطاني: “يتنامى انتفاض الجنود الإسرائيليين ضد المهام الشرطية لحفظ الأمن في الأراضي المحتلة. إنهم ساخطون على الانتداب لمهمات متكررة ومثيرة للجدل [القيام بالمهام الشرطية في الأراضي المحتلة وفي الداخل] نظير الحصول على مكافآت قليلة وفرص نجاح منخفضة” في الترقي الوظيفي.
ويوضح ليفي أن قيادة “الجيش الإسرائيلي تحاول استرضاء هذا القطاع من الجنود من خلال زيادة الرواتب وتخفيف قواعد الاشتباك، لكن ذلك لم يمنع من انتشار التذمر بين الجنود مؤخراً”.
وتعتمد استراتيجية غانتس الرامية إلى خدمة مصالح القطاع الأمني والجيش على الخصخصة والاستعانة بأدوات خارجية.
وهكذا، كُلِّف المستوطنون بعمليات ترويع يومية للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، خاصة في المنطقة “ج”، الخاضغة للسيطرة المدنية والعسكرية الإسرائيلية الكاملة، وأُطلقت أيدي هؤلاء لشنِّ هجمات منظِّمة ضد الفلسطينيين، يغضُّ الجيش الإسرائيلي الطرف عنها أو يدعمها.
وفي الوقت نفسه، يُستعان في مهام المراقبة بأدوات خارجية وشركات خاصة، مثل شركة الاستخبارات الإلكترونية “إن إس أو” NSO.
وحتى في العمليات الاستخباراتية، بات الجيش الإسرائيلي يستعين بهذه الشركات في بعض الأمور، وهو ما كشفت عنه واقعة حدثت مؤخراً، عندما أمدَّت منظمة NGO Monitor الإسرائيلية غير الحكومية وزارةَ الدفاع الإسرائيلية بوثائق لا أساس لها من الصحة لدعم مزاعم استخدمها غانتس بعد ذلك لتصنيف ست منظمات مجتمع مدني فلسطينية منظماتٍ إرهابية.
أهمية السلطة الفلسطينية لقطاع الأمن الإسرائيلي
مع ذلك، يقول الموقع البريطاني، فإن كل هذه الخطوات قد لا تكفي للسيطرة على الأوضاع، وهو ما يشير إليه ليفي بالقول: إن “غانتس يدرك الخطر الكامن في السيطرة المحدودة للجيش على القطاع الشرطي في المنطقة “ج” بالضفة، وهو ما يخلق احتمالية باشتعال الأمور في أي وقت”.
ويتابع ليفي: “غانتس يساوم السلطة الفلسطينية بالموارد المتاحة لديه، لأنه ليس لديه خيار آخر. فهو لو كان لديه السيطرة على قوات الشرطة، لاستخدَمها لكبح جماح المستوطنين، لأنهم سبب العنف في الحقيقة وليس الفلسطينيين”.
ومهما بدا من “احتقار” اليمين الإسرائيلي للسلطة الفلسطينية وعباس، فإن اجتماع الأخير مع غانتس يكشف مدى أهمية السلطة لقطاع الأمن الإسرائيلي.
والحال كذلك، فإن غانتس واقع بين تذمُّر الجنود الإسرائيليين من دور قوات الشرطة الاستعمارية في الأراضي المحتلة، وقلق الضباط بشأن معاشاتهم التقاعدية وتطلعاتهم إلى تولي وظائف في شركات الأسلحة في المستقبل. وبدون تعاون السلطة الفلسطينية، فإن الجيش الإسرائيلي لن يكون لديه أي وسيلة تحت تصرفه لقمع المقاومة الفلسطينية، باستثناء العنف ضد المحتجين في الأراضي المحتلة وفي الداخل.
ولكي يتجنب بينيت انهيار الوضع الراهن وإبقاء الفلسطينيين تحت السيطرة، لم يكن أمامه خيار إلا أن يمنح غانتس حرية التصرف للاستعانة بأدوات خارجية في الاضطلاع بالعمليات العسكرية الأساسية في أراضي الضفة الغربية المحتلة، حتى لو كان ذلك يعني انتقاد المعارضين له ولحكومته ووصفها بأنها “حكومة إسرائيلية فلسطينية”.