بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم تتوقف على مدى أكثر من سبعة أشهرٍ متواصلة، محاولات التوصل إلى صفقةٍ لتبادل الأسرى والمعتقلين بين المقاومة الفلسطينية وحكومة الكيان الصهيوني، رغم أن الأخيرة غير جادة في مسعاها، وغير صادقة في نواياها، ولا يبدو أنها ورئيسها بنيامين نتنياهو يريدون حقاً التوصل إلى صفقةٍ تفضي إلى استعادتهم أسراهم وعودة جنودهم وضباطهم أحياءً إلى عائلاتهم وأسرهم، إلا أن الوسطاء لم ييأسوا من المحاولة، ولم يتوقفوا عن السعي، لقناعتهم أن المقاومة الفلسطينية جادة في سعيها، وصادقة في نواياها، وعادلة في مطالبها، وهي تتطلع إلى صيغةٍ مقدرة تحقق أهدافها، وترضي شعبها، وتحرر بها أسراها.
ولعل ذوو الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية يعلمون يقيناً أن حكومتهم ورئيسها لا يريدون تحرير أبنائهم، ولا يبذلون جهوداً حقيقيةً لتحقيق هذا الهدف، الذي ترفعه الحكومة كاذبة، ويتشدق به وزراؤها وقادتها العسكريون والأمنيون، ويدعون كذباً وخداعاً أنهم يعملون لأجله، ويضغطون عسكرياً لتحقيقه، إلا أن الحقيقة التي بات المستوطنون الإسرائيليون يعلمونها جيداً، أن الجيش والحكومة لا يحرصون على استعادة جنودهم، ولا يريدون استبدالهم، ولا يشعرون بمعاناتهم، ولا بطول المدة التي قضوها في الأسر في ظل أجواء القصف والغارات العنيفة، وليس مستبعداً أنهم يتمنون قتلهم، ويريدون التخلص منهم، لئلا يضطروا إلى دفع أثمانٍ باهظة مقابل حريتهم.
وهم يدركون أن حكومتهم ورئيسها قد تورطوا فعلياً في قتل الأسرى، وذلك من خلال عمليات القصف الهمجية التي يقوم بها جيشهم في المناطق الفلسطينية التي يحتمل أن يكون فيها بعض الأسرى الإسرائيليين، وقد أعلن أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، عن مقتل العديد من جنود العدو ومجنداته وضباطه الأسرى، وأثبتت المقاومة صدقيتها في الإعلان الصريح والواضح عن أسماء القتلى، ونشرت صوراً لهم عندما كانوا في الأسر، حيث كانوا يتمتعون بصحةٍ جيدة، رغم حالة الحصار العامة التي يفرضها العدو على كل قطاع غزة، وتدميره للمستشفيات والمراكز الصحية، ومنعه إدخال الأدوية والمعدات الطبية الضرورية لأهل غزة، إلا أن المقاومة كانت حريصة على حياة الأسرى الإسرائيليين، عسكريين ومدنيين، رجالاً ونساءً، وكانت تجري لهم فحوصاتٍ طبية دورية، وتوفر لهم رغم صعوبة الظروف وشدة الحصار الأدوية اللازمة، وتجري لهم العمليات الضرورية المستعجلة.
ما زالت المحاولات قائمة والمساعي جارية، وما زال الوسطاء الإقليميون والدوليون يبذلون جهوداً كبيرة بين الطرفين لمحاولة التوصل إلى صيغة اتفاقٍ مرضية، أو صفقة شاملة تحقق أهداف الطرفين، رغم يقين المقاومة أن العدو يكذب ويراوغ، ويمكر ويخدع، وقد انقلب على الورقة الأخيرة التي كان جزءً منها، ووافق عليها، وأشرفت على إعدادها الإدارة الأمريكية، شريكته في العدوان، وحليفته التي تمده بالذخائر والقذائف والقنابل والصواريخ ومختلف أنواع السلاح، ورغم أن نتنياهو قد انقلب عليها وعصى أمرها وخالف تعليماتها، ولعله صفعها وأحرجها وأهانها، إلا أنها ما زالت تؤيده وتسانده، وتتفهم مخاوفه وتعذره في سياسته، وتبرر عدوانه وتدافع عن حقه ومظلوميته.
يظن نتنياهو وحكومته، ومجلسه الحربي الذي نكص على عقبيه وانقلب على الاتفاق، أن المقاومة التي أعلنت موافقتها على الورقة الأخيرة، وحرصت على الإعلان رسمياً عن موقفها، وأبلغت عدداً من قادة دول العالم موافقتها، حرصاً منها على مصالح شعبها، وإيماناً منها بالمسؤولية الملقاة على عاتقها، أنها وافقت عن ضعف، وقبلت نتيجة ضغط، وأنها عاجزة عن الصمود أكثر، والثبات في مواجهة الضغوط والتحديات الإسرائيلية، وأنه يستطيع ببعض الضغط الإضافي والجهد العسكري دفعها إلى التراجع عن مواقفها، والتنازل عن شروطها، والقبول بالتعديلات الإسرائيلية، التي تعني الاحتلال واستمرار القتال، ومواصلة الحرب والقصف والعدوان.
أخطأ نتنياهو ويخطئ أكثر إذا ظن أنه يستطيع باجتياح معبر رفح، والتهديد باجتياح المدينة، أن يرغم الشعب والمقاومة على تقديم تنازلاتٍ، ولعله ذاق في الأيام القليلة الماضية، التي تلت انقلابه على الورقة، مرارة الفقد وألم الخسارة، إذ بادرته المقاومة وباغتته في كرم أبو سالم ومنطقة نتساريم، وأدخلت جنوده وضباطه في حقولٍ ملغمةٍ، كانت قد أعدتها لهم شراكاً وفخاخاً، فوقعوا فيها وقتل وأصيب عددٌ كبيرٌ منهم، فضلاً عن عمليات القنص الدقيقة، التي طالت قناصيه وجنوده، والصواريخ التي انطلقت نحو مستوطناته وبلدات الغلاف، من مدينة رفح المحاصرة التي تتعرض للقصف المستمر والمتواصل، ومن الشمال الذي ادعى جيش العدو أنه قد قضى على المقاومة فيها، وفكك بنيتها وقتل رجالها، ولم تعد تشكل خطراً عليه.
لم يعلم هذا الغبي نتنياهو وحكومته، أن حركة حماس هي التي دفعت إليه بالسلم لينزل من على الشجرة وينجو بنفسه وجيشه، وأن إعلانها الموافقة على الصفقة كان طود نجاته، إلا أن غباءه قد أوقعه في شر أعماله، وقد كان بإمكانه أن يستفيد من الورقة التي شارك في صياغتها، فهو بدونها سيبقى عالقاً مكانه، وستسوخ أقدامه في رمال غزة أكثر، وستتناثر أشلاء جنوده بين ركام بيوتها المدمرة، ولن يتمكن مهما حاول تكرار ما قام به، وتجريب ما أقدم عليه، من تحقيق نصرٍ زائفٍ لا يصدقه أحد، أو استسلام مستحيلٍ يحلم به ويتمناه، ولعله سيدرك بعد فوات الأوان أنه خسر الصفقة وضيع الفرصة ووأد الحلم وأجهض الأمل، واقترب أكثر من هوة السقوط وحافة الهاوية التي ظن بكذبه ونفاقه، وحيله وأحابيله، أنه سينجو وكيانه منها.