هل انهار اتفاق بكين، أم جُمّد لوقت الحاجة؟ هاني المصري

 

مضى أسبوع على صدور “إعلان بكين”، ويبدو للوهلة الأولى كأنه حقق غرضه أو أغراضه، ووُضع على الرف إلى جانب بقية اتفاقات المصالحة. وفي الوقت نفسه تعرض لحملة شعواء من قبل عدد من المحسوبين على فتح ومستشار الرئيس وأحد المقربين منه، واعتبروا الإعلان كأنه لم يكن وصوت قوي للا شيء.

يبدو إن الهدف من إعلان بكين التلويح لأميركا وإسرائيل ومن يعزف لحنهما أن هناك بديلًا يمكن اللجوء إليه إذا ساءت الأمور؛ أي إذا استمرت دولة الاحتلال في رفض عودة السلطة إلى قطاع غزة، وتقويضها في الضفة الغربية،  وإذا تواصلت المحاولات الإقليمية لتجاوز الخيار الفلسطيني.

إن من شأن هذا البديل في حال تنفيذه أن يوحد الفلسطينيين، ويعطي لحركة حماس شرعية، في الوقت الذي تجري فيه محاولات لشيطنتها وإخراجها من اللعبة، ويعزز دور الصين، ويقطع الطريق على مخططات “اليوم التالي” التي تتجاوز الفلسطينيين، من خلال السعي إلى تشكيل إدارة فلسطينية مدعومة من قوة دولية متعددة، وتقوم بإنجاز ما لم تستطع حرب الإبادة إنجازه.

التلويح بالوحدة

إذًا، الهدف في هذه المرحلة من إعلان بكين التلويح بالوحدة وليس تحقيقها الآن، وما يعزز ذلك أن التصريحات الصادرة عن البلد المضيف وعدد من المتحدثين الفتحاويين الجادين، أشاروا إلى أن تشكيل حكومة الوفاق الوطني المؤقتة، وكذلك تشكيل الإطار القيادي المؤقت وتفعيله، سيتم بعد وقف الحرب وليس الآن. وهذا الموقف قد عُبّر عنه عندما لم يتم وضع جدول زمني لتنفيذ الاتفاق، وليس كما صرح بعض المشاركين بأن الوقت لم يسعف المجتمعين، فتحديد جدول زمني لا يحتاج سوى بضعة دقائق.

وإذا عدنا إلى الدوافع والأسباب التي ذكرناها في المقال السابق وتفسر التوقيع على الإعلان، سنجد أهمها على الإطلاق ارتفاع فرص دونالد ترامب بالفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية قبل انسحاب جو بايدن من السباق الانتخابي وبعد تعرضه لمحاولة اغتيال؛ لأن عودة ترامب إلى البيت الأبيض ستعني قبر أوهام انطلاق أفق سياسي لتحقيق ما يسمى “حل الدولتين”، ودعمًا أميركيًا أقوى لحكومة نتنياهو، سيصل إلى ضم مناطق (ج)، أو شرعنة الكتل الاستيطانية على الأقل بغطاء أميركي، وقد تؤدي إلى استمرارها أو لجوئها إلى إجراء انتخابات مبكرة قد يفوز فيها اليمين المتطرف الديني والقومي الحاكم مرة أخرى.

عودة زخم الحملة الانتخابية بعد تنحي بايدن

في هذا السياق، فإن تنحّي بايدن وتُقدم كامالا هاريس للترشح عن الحزب الديمقراطي، وعودة المنافسة الحامية للانتخابات الرئاسية الأميركية، يعزز عدم تنفيذ إعلان بكين، لانتظار نتيجة الانتخابات في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، فإذا فاز ترامب يُفعّل إعلان بكين لأن المواجهة ستكون سيدة الموقف، وإذا فازت هاريس سيكون مصيره مصير الاتفاقات السابقة؛ لأن الأوهام والرهانات الخاسرة عما يسمى “حل الدولتين” ستكون سيدة الموقف، هذا مع الإشارة إلى أن الخيار بين هاريس وترامب هو بين السيئ والأسوأ وليس الجيد والسيئ.

ما سبق يدل على أنّ “حماس” بحاجة إلى الوحدة ومظلة الشرعية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى لإحباط مخطط شطبها، وأن القيادة الرسمية الفلسطينية يمكن أن تحتاج إلى الوحدة أو لا تحتاج إليها، ولذا تتعامل مع الوحدة الوطنية – التي تعدّ قانون الانتصار لأي حركة تحرر وطني – بشكل تكتيكي ومجرد ورقة تستخدمها عند الحاجة، وعند توفر اتفاق مع “حماس” يعطيها مزايا كبيرة، مثلما حدث في تفاهمات إسطنبول التي تميزت بالاتفاق على خوض الانتخابات التشريعية في قائمة واحدة تضم حركتي فتح وحماس ومن يرغب من الفصائل الأخرى، وخوض الانتخابات الرئاسية بمرشح توافقي، وهو الرئيس محمود عباس.

كانت “حماس” حينها أو المتحمسون منها لتفاهمات إسطنبول يعطون الأولوية للدخول إلى النظام السياسي الفلسطيني، وخاصة إلى منظمة التحرير، والحصول على الشرعية، ولو بثمن التخلي عن السيطرة الانفرادية على قطاع غزة.

أما “حماس” الآن فمعنية بالدخول إلى المنظمة للتصدي للموجة العاتية التي تريد القضاء على الحركة أو إضعافها بشكل كبير، حتى لا تتحول إلى اللاعب الرئيسي الفلسطيني، ولا تبقى اللاعب الرئيسي الفلسطيني في قطاع غزة.

ومن الأشياء التي أغاظت البعض من إعلان بكين أنه بدا متوازنًا حين تحدث عن المقاومة ضمن القانون الدولي، وليس عن المقاومة السلمية فقط، وعن تشكيل حكومة وفاق لا تشارك فيها الفصائل مقابل تفعيل الإطار القيادي المؤقت، وفق ما جاء في اتفاق القاهرة 2011، الذي أعطى له صلاحيات قيادية واسعة. كما لم يتضمن إعلان بكين أي تناول لنزع سلاح المقاومة أو وضعه تحت إمرة القيادة الواحدة أو السلطة الواحدة، مع أن كل هذه المسائل قابلة للحوار إذا استندت الوحدة إلى أساس وطني ديمقراطي كفاحي وشراكة سياسية حقيقية.

ما يميز إعلان بكين رعاية الصين

ما يميز إعلان بكين أنه تم برعاية الصين، وهذا يوفر فرصة له أكبر للنجاح، فهي الدولة الكبرى الصاعدة التي تنافس الولايات المتحدة على قيادة العالم. وتحاول رسم عالم جديد تعددي، ويعطيها الإعلان دورًا أكبر في أهم منطقة يهم الصين أن تكون مستقرة لحماية مصالحها، لا سيما أنها أكبر تاجر في العالم وأكبر مستورد للنفط العربي.

الموقف الصيني من إسرائيل

قد يقول قائل، وهذا ينطوي على قدر من الوجاهة، لماذا لا تقوم الصين بدور أكبر من خلال بذل جهود أكبر لوقف حرب الإبادة، أو معاقبة إسرائيل التي تربطها بها علاقات متميزة مثلما فعلت جنوب أفريقيا وعدد من دول الجنوب؟ ولماذا لا تدخل من بوابة فرض الحل من داخل مجلس الأمن والمؤسسات الدولية وخارجها؟ ولماذا لا ترمي بثقل أكبر وتقدم مساعدات أكثر؟ وأعتقد أن هذا يمكن أن يحصل، ولكن بالتدريج، وضمن نظرية الصعود السلمي للصين.

ولكن ضعيف البصر من لا يرى أن الصين يتقدم موقفها بثبات وقد بدأ، فهي تدعم الحقوق الفلسطينية، ومن أوائل الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، وأدانت السياسات والإجراءات الإسرائيلية، وهي من شرعت في تقديم المبادرات والتحركات الصينية المتكاثرة والمتلاحقة لحل الصراع في المنطقة، من خلال مؤتمر دولي ينهي الاحتكار الأميركي لعملية السلام ومن خلال مصالحة الرياض وطهران.

تطور جديد في موقف الصين

وثمة تطور جديد في موقف الصين، عبّر عنه وزير خارجيتها، وانغ يي، بتصريحاته بعد إعلان بكين، التي شدد فيها دعم عقد مؤتمر دولي للسلام بمشاركة أوسع ومصداقية أكبر وفعالية أكثر، ووضع جدول زمني وخريطة طريق حول تنفيذ “حل الدولتين”، والدفع بعودة القضية الفلسطينية إلى المسار الصحيح المتمثل في الحل السياسي.

نعم، القضية الفلسطينية تواجه تحديات ومخاطر جسيمة، وبحاجة إلى تحرك أقوى لدعمها، خاصة إزاء وقف حرب الإبادة؛ لأنه لا يحتمل الوضع مع المجازر اليومية التي ترتكبها قوات الاحتلال من دون حسيب أو رقيب وبمشاركة أميركية وتواطؤ من دول كثيرة، إضافة إلى عجز المجتمع الدولي الذي سقط سقوطًا أخلاقيًا مدويًا.

إعلان بكين خطوة نحو الأمام

يبقى إعلان بكين خطوة مهمة إلى الأمام، وبحاجة إلى تنفيذ، وعلى الحريصين على الوحدة الوطنية عدم الاكتفاء بانتظار تنفيذه، وإنما عمل كل ما يلزم وممارسة الضغط السياسي والجماهيري المتراكم لضمان تنفيذه أولًا وتطويره ثانيًا، فلا يجب أن يبقى مصير القضية والشعب بيد فصائل وصلت إستراتيجياتها إلى طريق مسدود، ومعظمها لم يعد له وجود فعلي وأكل عليها الدهر وشرب، وإنما يجب توسيع دائرة المشاركة والتمثيل من الشباب والمرأة والشتات والحراكات في الحوارات ومختلف المؤسسات، خصوصًا الإطار القيادي المؤقت، إلى حين إجراء الانتخابات وتشكيل مجلس وطني جديد يعبر فعلًا عن الشعب في مختلف أماكن تواجده.