جوابي هو: نعم. والمؤشّرات على الخسارات الإسرائيلية تأتي تِبَاعاً.
دعونا أوّلاً نحدّد الإطار الأعمّ والأشمل لمفهوم المعارك على الوعي.
ببساطة، معركة الوعي، أو المعركة على هذا الوعي، هي مسألة مقارنات يستحيل من دونها الوصول إلى مقاييس ومعايير علمية رصينة. والمقارنة هي على عدّة مستويات:
المستوى الأوّل، حالة الوعي لدى كلّ طرف من أطراف الصراع، والحرب التي دارت حتى الآن، وما أحدثته هذه الحرب على هذا المستوى. أي أن حالة هذا الوعي قبل نشوب هذه الحرب نقطة البداية، ونقطة المنطلق، ومنها، وعلى أساسها، تجدر المعالجة.
قبل نشوب هذه الحرب كانت القضية الفلسطينية تعيش في واحدة من أخطر مراحلها من التجاهل والتهميش، وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد بدأت مسار تبنّي الرؤية الإسرائيلية حول تحويل الحقوق الوطنية الفلسطينية إلى احتياجات معيشية «مُطعّمة» ببعض الأحاديث المتقطعة وعن «شذرات» متناثرة حول الحقوق الوطنية، وبدأت تختفي مفردة «الدولة» الفلسطينية من الخطاب السياسي الأميركي، ومن الخطاب الأوروبي مع إبقاء الباب الأوروبي موارباً على هذه المفردة.
وقبل نشوب هذه الحرب كانت حكومة التطرّف والعنصرية تجاهر بأعلى صوتها أنّ قيام أي دولة فلسطينية، من أي نوع، مسألة من سابع المستحيلات في الرؤية الإسرائيلية، وشطب نتنياهو خارطة فلسطين من خرائطه المستقبلية، ليس أمام «الغرب» كلّه فقط، وأمام العرب كلهم، وإنّما في أروقة الأمم المتحدة، ومن على منابرها.
ليس هذا كلّه فقط، وإنّما عملت أميركا، وكذلك «الغرب» من خلفها، والنظام العربي إلى جانبها، للدخول في المرحلة «الإبراهيمية» والتي من حيث الجوهر تساوي «السلام والوئام والتطبيع» (على أمل) أن يتمّ فيما بعد الحديث عمّا يمكن أن يعطى للشعب الفلسطيني بعد أن تكون دولة الاحتلال فد تسلّمت القيادة والريادة لكلّ الإقليم، بعد أن «غادرت» أميركا المنطقة نحو آسيا، ونحو حروبها ضد الصين والدولة الروسية.
والممرّ الهندي نفسه، والذي هندسته أميركا في مؤتمر دول العشرين شطب بموافقة العالم، وبموافقة بعض النظام العربي، فلسطين من جغرافية الإقليم.
وفي هذا الإطار بالذات بدأت المعارك في الضفة الغربية، وتم إطلاق العنان للمستوطنين الفاشيين، وبدأت الحكومة الفاشية المباشرة في مخطّط حسم الصراع، بوضوح كامل، وخطط ملموسة، وآليات مباشرة للتنفيذ.
وكان الوعي الإسرائيلي المنقسم تماماً حول «الإصلاحات القضائية»، والمنسجم تماماً حول حسم الصراع، وحول شطب فلسطين من خارطة الإقليم، مطمئناً حول أنّ العرب ليست لديهم مشكلة لقبول هذا الواقع، وأنّهم ينقسمون بين من هو «سعيد»، و»راضٍ»، و»راضخ على مضض».
وكان الوعي الإسرائيلي مطمئناً، أيضاً، إلى أنّ قطاع غزة يبحث عن لقمة العيش، ومستعد لتهدئة طويلة، وأنّ «حزب الله» لن يشكّل أيّ تهديد كبير لأنه يدور في الفلك الإيراني، وإيران تبحث عن اعتراف، أو إعادة اعتراف غربي ببرنامجها النووي، وأنّ من يؤيّدون «المقاومة» ليسوا في وضع التهديد الحقيقي لدولة الاحتلال طالما أنّ «الغرب» كلّه بات يتقبّل إستراتيجية حسم الصراع، وبات يعمل على ترسيخ «الإبراهيمية» في الإقليم وتعزيز الدور الإسرائيلي في قيادة الإقليم نيابة عن أميركا، وعن «الغرب» كلّه، بقبول «عربي» شبه شامل وكامل.
إذا قارنّا ما كان سائداً من حالة «وعي» إسرائيلي قبل الحرب، وما يسود الآن من هذه الحالة، فماذا نكتشف؟ وهذا هو المستوى الثاني من المسألة.
تبيّن، وبصورةٍ صارخة أنّ الولايات المتحدة قد هرعت إلى الإقليم بكل ما تملك من أسلحة ومعدّات ومدمّرات وحاملات، ولحق بها «الغرب» كلّه لمنع انهيار إسرائيل بعد عدة ساعات فقط على «الطوفان»، وأصبحت «الدولة» المرشّحة للزيادة والقيادة لكل الإقليم، والتي تلعب فيه دور المهيمن ودور الرادع المانع ودور ووظيفة القاعدة المتقدمة الآمنة القوية المقتدرة، بحاجة ماسّة وسريعة وعلى الفور للحماية والاحتضان، بعد أن سقطت استخباراتها، وترنّح جيشها في كامل منطقة الجنوب، وذهبت على الفور، أو بعد عدّة ساعات فقط نحو هجمات تدميرية بأقوى ما لديها من أسلحة لقتل المدنيين ومحوهم من الوجود، وتدمير كل ما يمتّ للحياة بِصلة في القطاع من مدارس ومستشفيات ومرافق وخدمات، ولم يتبقَّ فيه شارع أو زقاق أو مدينة أو مخيم إلّا وقصف بعشرات الغارات، وبأكثر أنواع الأسلحة فتكاً وتدميراً، وبغطاء كامل من «الغرب» كلّه، وبصمتٍ شامل من عشرات الدول العربية والإسلامية، واغتالت إسرائيل معظم القادة العسكريين والميدانيين، وادّعت أنّها أنهت المقاومة وقضت على آخر كتائبها في رفح، ودخلت بعض المناطق خمس وست مرّات لتكتشف أنّ هذه الكتائب ما زالت على درجةٍ كبيرة من الروح القتالية، والقدرة على الاستمرار في حرب استنزاف تنهش من اللحم الحيّ لدولة الاحتلال، وخرج مئات آلاف الإسرائيليين في تظاهرات لاسترجاع الأسرى بوساطة صفقة التبادل بعد أن تأكّدت من استحالة استرجاعهم بالقتال أو بالضغط العسكري.
لا شكّ أنّ الخسائر المدنية في القطاع مرعبة، ولكن الشعب الفلسطيني أصبح يعيش على أمل كسر الحلقة الجهنمية الصهيونية، وكسر قدرات ومقدرات الاحتلال ومنعه من تحقيق الأهداف والانتصار، وهي المرّة الأولى التي يتكبّد فيها الكيان خسارات إستراتيجية لن يتمكن من تجاوزها دون أن يدفع الثمن من هذه القدرة والمقدّرات، ودون أن يضطر إلى التسليم بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني إذا تحولت الحروب إلى انسدادات إستراتيجية يستحيل تجاوزها.
لقد تم كيّ الوعي الصهيوني في أعمق نقطة صميمية من هذا الوعي، ولم يعد المجتمع يثق بجيشه ودولته وقياداته السياسية حتى وإن كان ما زال يراهن عليها، لأنّ المراهنة لا تعكس الثقة ولا يقيناً دائماً، والمراهنة في الحالة الإسرائيلية هي المراهنة ما قبل اليأس والإحباط، والانهيار النفسي الشامل.
وماذا عن المعارك في لبنان؟ وماذا عن «الوعي» الناجم عن هذا الوضع؟ وماذا عن إيران؟ وعن شعوب المنطقة؟ وماذا عن شعوب العالم؟ وماذا عن سمعة دولة الاحتلال؟ إلى أين وصلت؟
هل عاد المهجّرون؟ هل انقطعت الصواريخ، أم أنّها اتسعت وامتدت إلى أعماق العمق كمّاً ونوعاً وبضربات موجعة؟
هل انزوت إيران، أم أنّها ضربت دولة الاحتلال ضربات مدمّرة وموجعة، وهي تعلن على رؤوس الأشهاد أنّها ستذهب إلى أبعد بكثير مما ذهبت إليه حتى الآن؟
ألم «ينأَ» كلّ الإقليم عن التدخّل في الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وبما يشبه تحييد كل دول الإقليم في هذه الحرب؟
لماذا تتعثّر قوات الاحتلال والإجرام الإسرائيلية في جنوب لبنان بعد ثلاثة أسابيع من محاولات التقدّم والاختراق بعد كلّ الضربات التي وجهّت للحزب؟ ولماذا تتلعثم دولة الاحتلال في الردّ على الضربة الإيرانية التي ألحقت بها خسائر كبيرة، ومهانةً أكبر؟
المجتمع الإسرائيلي بدأ بطرح الأسئلة، وبدأ بالخشية من خسارة الحرب كلّها، وبدأ يشكّ في كلّ ما يقوله له الإعلام الذي تحوّل إلى دعاية رخيصة لانتصارات وهمية، وخسارات مخفية!
في وضعٍ خاص كوضع المجتمع الإسرائيلي، مجتمع كان مرفّهاً ومنفكّاً بالكامل عن واقع الصراع وحقائقه، يزهو بالقدرة والتفوّق، ويرى في عنصريته ميّزات معزّزة بالغطرسة، والإسناد الدولي، والغطاء الكامل من كل العالم «الغربي». مجتمع ينقسم على رفاهيته السياسية، ويجمع على الحرب، ولا يرى في عالمَين عربي وإسلامي كاملَين سوى من لا يملكون من أمرهم سوى لغة الثرثرة السياسية، ويعيشون ويعتاشون على توسّل الرحمة من «الربّ» الأميركي.
مجتمع كهذا كان غائباً ومغيّباً، وواهماً وموهوماً، ستكون صدمة الوعي لديه واحدة من أكبر وأخطر الصدمات التي يمكن أن يتعرّض لها تجمع بشري في كلّ التاريخ المعاصر، وهذا هو المستوى الثالث من معركة الوعي.