هل تتراجع ألمانيا عن موقفها تجاه الحرب في أوكرانيا؟

في مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي، حث المستشار الألماني أولاف شولتز على تكثيف الجهود لإنهاء الحرب في أوكرانيا من خلال المفاوضات، فأكد على أنه “يتعين علينا مناقشة كيفية الخروج من حالة الحرب هذه بشكل أسرع”. وأكد شولتز على اعتقاده بأن روسيا لا بد أن تكون حاضرة في مناقشات السلام المستقبلية، وقد أشار إلى ذلك أيضاً خلال لقائه بفولوديمير زيلينسكي الرئيس الأوكراني مطلع الشهر الجاري. إن هذه الدعوة بمشاركة روسيا في مناقشات السلام، والتي تأتي من أحد المانحين الرئيسيين للمساعدات العسكرية لأوكرانيا، تمثل تحولاً كبيراً عن توجهات قمم السلام السابقة، وآخرها تلك التي عقدت في سويسرا قبل أشهر، ولم يتم دعوة روسيا إليها.

قبل يومين من مقابلة المستشار الألماني، أظهرت بيانات جديدة انحداراً أسوأ من المتوقع في الإنتاج الصناعي في بلاده، حيث سجل انخفاضاً بنسبة 2.4% على أساس شهري في تموز الماضي. فضعف الصناعة الألمانية يعني أن الاقتصاد الألماني يعاني من حالة ركود هذا العام. وتخلف هذه المشاكل الصناعية تأثيراً متتابعاً على مختلف أنحاء المنطقة، حيث سجلت الاقتصادات المعتمدة على ألمانيا أيضاً مثل المجر وجمهورية التشيك على سبيل المثال نتائج صناعية مخيبة للآمال أيضاً.
إن حرب روسيا وأوكرانيا لم تتسبب في ارتفاع أسعار الطاقة فقط، وتبعات ذلك اقتصادياً، وتأثير ذلك سلبياً على الإنتاج الصناعي، بل تفاقم ذلك بمنافسة الصين. فأثرت خطوة بكين لمواجهة ثورة الطاقة الخضراء في الاتحاد الأوروبي، حيث تعتبر نفسها قائدة في إنتاج المركبات الكهربائية الرخيصة ومكونات المركبات الكهربائية، على قطاع السيارات المهم والمركز في أوروبا الوسطى. إن العجز التجاري للاتحاد الأوروبي البالغ 8.8 مليار يورو مع الصين في المركبات الكهربائية وحدها يعرض الوظائف في أوروبا للخطر، حيث تقوم شركات تصنيع كبرى مثل فولكس فاغن الآن بإغلاق إنتاج المركبات الكهربائية في مصانعها الأوروبية. ويتوقع الخبراء فقدان آلاف الوظائف في الصناعة الألمانية وحدها. إن ذلك يجعل القادة الأوروبيين بمن فيهم شولتز في وضع سيئ، وليس لديهم الوقت للانتظار حتى يؤتي التخطيط الاستراتيجي الطويل الأجل ثماره.
وتحتاج ألمانيا كبلد صناعي مهم للطاقة من روسيا، بينما تحتاج روسيا إلى السوق والاستثمار الألماني، لذلك كانت ألمانيا من طلائع الدول التي شجعت الانفتاح الروسي الأوروبي. منذ تسعينيات القرن العشرين وحتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تقدمت العلاقات الألمانية الروسية بشكل مطرد، في ظل تقارب للعلاقات الروسية الغربية، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وتوجه روسيا باتجاه الغرب، وقناعة الغرب باقترابها منه. فتبنت ألمانيا منذ عقد التسعينات مفهوم الشراكة من أجل التحديث، وعملت باعتبارها الشريك التجاري والاقتصادي الأكثر أهمية لروسيا في الاتحاد الأوروبي، كوسيط بين روسيا والغرب.
ودعمت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، التي شغلت منصبها ما بين عامي 2005 و2021، الشراكة الألمانية الروسية، وتعرضت بسبب ذلك لانتقادات أميركية. وخلال فترة ولايتها، خفضت ألمانيا إنفاقها العسكري إلى الحد الأدنى، ورفعت اعتمادها على الطاقة من الغاز الروسي إلى مستوى قياسي، فازداد استيراد الغاز الروسي من 36 في المائة في العام 2010 إلى 65 في المائة بحلول عام 2020. ورغم تأثر العلاقات بين ألمانيا وروسيا في أعقاب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، ودعوة برلين لفرض عقوبات اقتصادية على موسكو، لم تقطع ألمانيا شراكتها مع روسيا.
قامت ألمانيا ببيع العديد من مخازن الغاز، بما في ذلك واحدة من أكبر مخازن الغاز في أوروبا، إلى شركة الغاز الروسية جازبروم في العام 2015، ووافقت ميركل في ذلك العام على تشييد خط أنابيب للغاز نورد ستريم 2، الذي عارضته الولايات المتحدة، والذي يجعل أوروبا أكثر اعتمادًا على الغاز الروسي، من خلال مضاعفة كمية الغاز التي ينقلها خط أنابيب نورد ستريم 1. وأنشأت ألمانيا، إلى جانب فرنسا وروسيا وأوكرانيا، صيغة نورماندي للسعي إلى حل سلمي مع روسيا، إلا أن اتفاقيات مينسك التي أنتجتها صيغة نورماندي لم تنجح، فجاءت الحرب في العام 2022.
بعد اندلاع الحرب عام 2022, لم يتبن المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي وصل للحكم في العام 2021 سياسة ميركل المستقلة عن الولايات المتحدة، وانخرط مع غالبية نظرائه الأوروبيين بفرض عقوبات على روسيا، فدفعت ألمانيا، بعد دخول الحرب عامها الثالث ثمناً باهظاً لها.
ترتبط تلك النتائج بعاملين من المهم وضعهما في الاعتبار. ارتبط تطور العلاقات الأوروبية الروسية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي بالتزامات غربية، أميركية – أوروبية، لروسيا ضمن معادلة استراتيجية، تتعلق بعدم انضمام دول أوروبا الشرقية للكتلة الغربية، والتي كانت تتبع في الماضي للاتحاد السوفييتي. فقد يشكل انضمام تلك الدول إلى الكتلة الغربية، خصوصاً لجناحها العسكري الممثل بحلف الناتو، خطراً أمنياً مباشراً على الأمن القومي الروسي. ويزداد الأمر تعقيداً بالنسبة للأمن الروسي عندما يتعلق الأمر بدول أوروبا الشرقية التي تقع على الحدود مع روسيا، والتي تعرف بـ (Buffer States)، مثل جورجيا وأوكرانيا، فشكلت محاولات انضمام دول مثل جورجيا وأكرانيا لحلف الناتو رد فعل روسي مختلفاً. فخاضت روسيا حرباً مع جورجيا في
العام 2008، الأمر الذي اعتبر رسالة من روسيا تعني استعدادها لخوض الحرب للدفاع عن مصالحها. وجاء ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، على خلفية وصول حكومة موالية للغرب في أوكرانيا، وتوقيعها على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي. وفي الأسابيع التي سبقت الحرب المشتعلة حالياً، طالبت روسيا الولايات المتحدة وحلف الناتو بالتوقف عن توسيع التحالف، ونشر أسلحته بالقرب من حدودها وإزالة الأسلحة النووية الأميركية من أوروبا. وفي تحدٍ صريح لروسيا وبدعم أميركي صريح أيضاً، طورت أوكرانيا علاقاتها مع حلف الناتو في السنوات التي سبقت الحرب عام 2022، فأجرت تدريبات عسكرية دوريه مع التحالف، وأصبحت واحدة من بين الشركاء الستة الأقرب للحلف من الدول غير الأعضاء. ولم تخفِ كييف هدفها وسعيها للحصول على العضوية الكاملة في حلف الناتو، وهي التي لم تكن حتى أوائل العقد الجاري مستبعدة فقط من الانضمام للحلف، بل ومن الاتحاد الأوروبي أيضاً.
ويعود العامل الثاني للسياسة الخارجية الاستراتيجية الأميركية في العام ٢٠٢١، أي قبل الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي تركزت لمواجهة الصين وروسيا تحديداً، ووجهت دعوات إلى أوروبا للتعاون معها في ذلك. وتعود أسباب تلك السياسة لما حققه البلدان، وإن كان بنسب متفاوته من تطورات اقتصادية وعسكرية وسياسية ملحوظة. وقد حققت روسيا على وجه التحديد نتائج إيجابية على المستوى الاقتصادي والسياسي من خلال علاقتها المميزة مع أوروبا، والتي تسبب بالقلق لواشنطن.
ان ما تعاني منه أوروبا اليوم على أصعدة مختلفة، أهمها الاقتصادي، في ظل حرب أوروبية مستعرة ومستمرة، تجعلنا نطرح سؤالًا مهماً، إلى أي مدى يمكن يمكن لحلفاء الولايات المتحدة الثقة بالرؤية والاستراتيجية الأميركية؟ اليوم، تعاني أوروبا من تبعات حرب أرادتها وأشعلتها الولايات المتحدة، وتدفع أوروبا ثمناً لها. في الأمس، شنت الولايات المتحدة حرباً على العراق، قضت فيها على نظام صدام حسين، فأدى ذلك لتخلخل معادلة التوازن في المنطقة، لغير صالح حلفائها في المنطقة. فالحسابات الأميركية لا تكون في العادة لصالح حلفائها، بل على العكس قد يدفع شركاؤها ثمن أفعالها، كما حصل في الشرق الأوسط سابقاً، وفي أوروبا حالاً. وقد يقدم ذلك معطىً مهماً لدول المنطقة لإعادة التفكير في طريقة اعتمادها على مخططات واستراتيجيات واشنطن خصوصاً تجاه سياسات دولة الاحتلال في المنطقة.