تقول حكمة هندية قديمة: إذا عرفت الحاضر يمكنك أن تعرف المستقبل. اليوم، تعدنا تقنية التوأمة الرقمية بمعرفة ما يجري في عالمنا كل لحظة، فهل ستكشف لنا أسرار المستقبل؟
كاد انفجار خزانات الأكسجين في مركبة أبولو 13 الفضائية التي أطلقت في أبريل/نيسان 1970 أن يسبب كارثة، لو لم تكن وكالة ناسا قد أنشأت توأما مماثلا لهذه المركبة في المحطة الأرضية، مما سمح للمهندسين باختبار أفضل الحلول الممكنة وهم على بعد يزيد على 300 ألف كيلومتر من المركبة الفضائية.
يمكن اعتبار ذلك من التطبيقات المبكرة لمفهوم التوأمة، على الرغم من أنها لم تكن رقمية في ذلك الوقت. وقد أدت الدروس المستفادة من هذا الحدث إلى ظهور فكرة إنشاء نسخة رقمية عالية الدقة للمركبات الفضائية، لتسهيل استكشاف المشكلات وإصلاحها.
لكن هذه الفكرة لم تتبلور بشكل واضح سوى في تقرير خارطة الطريق لعام 2010، الذي أصدره الباحث في وكالة ناسا جون فيكرز، معتمدا فيها اسم “التوأم الرقمي” (Digital Twin) الذي كان قد بدأ تداوله قبل 8 سنوات على يد الأكاديمي الأميركي مايكل جريفز.
بدأ الاهتمام بالتوأم الرقمي يتزايد بعد أن وضعته مؤسسة غارتنر للأبحاث (Gartner) عام 2017 ضمن قائمة أهم 10 توجهات تكنولوجية مستقبلية.
ولعب انتشار شبكات الجيل الخامس (5G) الأسرع بمئة مرة من الجيل الرابع، وانتشار أجهزة إنترنت الأشياء (IoT) دورا أساسيا في التطور السريع لمشاريع التوأمة الرقمية، إذ بلغ عدد أجهزة ومستشعرات إنترنت الأشياء المركّبة عالميا نهاية عام 2021 نحو 12.2 مليارا، ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى نحو 27 مليارا بحلول عام 2025 وفق شركة “آي أو تي أناليتيكس” (IoT Analytics) المتخصصة بأبحاث إنترنت الأشياء.
إمكانيات التوأمة الرقمية
يمكن من الناحية النظرية إنشاء توأم رقمي لأي جسم أو نظام مادي أو خدمي. فيمكن إنشاء توأم رقمي لسيارة أو أي جهاز أو مصنع متكامل أو شركة أو مدينة أو حكومة أو عائلة أو فرد أو عضو من أعضاء الإنسان.
ولإنشاء توأم رقمي لكيان ما، يجب أن يرسل هذا الكيان كافة المعلومات المتغيرة المرتبطة به بشكل متواصل إلى توأمه الرقمي.
وقد أصبح هذا ممكنا في العديد من الحالات، بسبب مليارات المستشعرات وكاميرات الفيديو الذكية التي تم نشرها في العديد من المدن المتطورة والمؤسسات أيضا.
ويمكن مثلاً إنشاء قلب رقمي لمريض القلب ووضع مستشعرات في جسم الإنسان ترسل لحظيا كل الحالات والتغيرات التي تطرأ على القلب العضوي إلى القلب الرقمي (التوأم الرقمي)، مما يسمح بالتنبؤ بالأزمات القلبية المحتملة مسبقا عبر برامج تحليل ذكية.
وهذا ينطبق أيضا على المنتجات الصناعية والشركات والمدن والحكومات، مما يحسن فرصة التنبؤ بالمستقبل. ويتوقع أيضا أنه بحلول عالم 2050 سيصبح ممكنا إنشاء توأم رقمي كامل للإنسان.
التوأم الرقمي للإنسان
يوجد تصوران مختلفان لمفهوم التوأم الرقمي للإنسان يتم تداولهما حاليا، يتحدث الأول عن إنشاء نسخة رقمية مطابقة لمبادرة 2045 التي أطلقها الملياردير الروسي ديمتري إيتسكوف، الهادفة إلى نشر بيانات عقله وشخصيته على حاسوب عملاق، سعيا وراء الخلود الرقمي بحلول عام 2045.
وهذا يعني أن التوأم الرقمي الناشئ يمكنه العمل والتصرف بشكل مستقل عن توأمه البيولوجي، فينجز أعماله فيما يلهو الشخص الأصلي في مكان آخر.
التوأم الرقمي في هذا التصور يمكنه العيش إلى الأبد، كما يدور الحديث حاليا حول إمكانية أن يحيا هذا التوأم الرقمي في عالم الميتافيرس الجاري إنشاؤه حاليا.
التصور الثاني وهو الأقرب لمفهوم التوأمة الرقمية، كونه يدور حول وصل جسم الإنسان بمستشعرات تنقل كل ما يحدث في جسمه لحظة بلحظة إلى حاسوب عملاق، مزود ببرامج ذكية تسمح بتحليل البيانات المتدفقة والتنبؤ بالسلوك المستقبلي لكل عضو فيه، مما يؤدي بالضرورة إلى زيادة ملحوظة في العمر الصحي للإنسان.
السؤال هو: كيف يمكن زرع العديد من المستشعرات في جسم الإنسان؟
ابتكر باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا طريقة علمية غير معقدة لتقليص حجم الأشياء أكثر من ألف مرة. تسمح الطريقة الجديدة مثلا بابتكار جزيئات روبوتية صغيرة جدا تجول في جسم الإنسان، وترسل كل ما يدور فيه من أحداث.
التنبؤ بمستقبل الأرض
بدأت شركة إنفيديا (Nvidia) أواخر عام 2021 بالعمل على إنشاء توأم رقمي للأرض، يتلقى عبر مستشعرات ذكية تغطي الأرض معلومات آنية مستمرة عن الضوء والجاذبية والمغناطيسية والحرارة والرطوبة والأمطار ومؤشرات عديدة أخرى، مما يؤدي إلى إنتاج كمية هائلة من البيانات تتطلب حاسوبا عملاقا لتخزينها وبرامج ذكية لمعالجتها، وهو ما تعمل الشركة على تطويره حاليا باسم “الأرض-2” (Earth-2)، بحيث يتمكن هذا التوأم الرقمي من التنبؤ بمستقبل الأرض بدقة أعلى كثيرا من دقة التنبؤات الحالية.
هل يؤدي نجاح الإنسان في توأمة البيئة المحيطة به رقميا بشكل تام إلى ولادة كرة الكريستال السحرية التي تتيح لنا معرفة المستقبل؟
من المؤكد أن التوأمة الرقمية سوف تتيح لنا استشراف المستقبل أفضل كثيرا مما نستطيعه اليوم.
لكننا ووفق نظرية “عدم التأكد” (Uncertainty Principle) التي صاغها العالم الفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبيرغ عام 1927، لا يمكننا التنبؤ بالمستقبل بدقة مهما بلغ بنا التقدم العلمي، لأننا ببساطة “لا نستطيع -من حيث المبدأ- معرفة الحاضر معرفة كاملة”.