تخضع السياسة الدولية والعلاقات بين الدول لميدأ سداد القروض ،طبعا هي ليست قروضا مالية ،وانما مواقف تبذلها دولة لأخرى في اوقات الازمات ، لتستوفيها منها لاحقا حين تكون هي نفسها بحاجة للدعم والمساندة.
لكن مشكلة العرب و خصوصا الخليجيين خلال الحرب الروسية الأوكرانية هي أن عليهم أن يقرضوا طرفي الأزمة معا.فمن جهة يحتم عليهم تحالفهم التاريخي مع الغرب زيادة ضخ البترول في شريان الاقتصاد والصناعة العالمي إنقاذا للاطلسي وللولايات المتحدة الأمريكية سندهم الأول في صراعهم الاستراتيجي المفتوح ضد ايران،ومن جهة أخرى روسيا زميل لهم بمنظمة أوبك بلاص تضبط معهم في الشدة والرخاء سعر البرميل بما يخدم مصلحتهم وييسر رفاهيتهم .
و لكن ورغم وضعية الإحراج هاته ، كان الكل يتوقع ان موقف العرب شبه محسوم ،وانهم سيرجحون الكفة الامريكية، ويدعمون جو بايدن حتى قبل ان يطلب هو ذلك،لكن سيظهر فيما بعد ان ذلك كان خطأ كبيرا في التقدير ،و ان الحسابات التي تقيمها الدول الغربية للتضييق على روسيا اقتصاديا ، تجريها ايضا الدول العربية باعمل نفس منطق المكسب والخسارة .
مما أدى لحدوث انقسام في الموقف الخليجي يذكر بالأزمة الخليجية القطرية .اذ بينما ارتمت قطر في الحضن الامريكي فان السعودية والإمارات، ومصر معهما، لازلن يترددن في الاصطفاف مع امريكا ،بل و يقمن بحركات تسير في الاتجاه المعاكس .فما السر ياترى فيىهذا التمنع الأخير ؟؟
تدرك الدول العربية وخصوصا الخليجية منها ان أسهم إيران ارتفعت لدى الغرب ، وان أيام سعدها في اقبال. ،لانها من المستفيدات الممكنات من المصائب الاقتصادية لروسيا . حيث تشكل بديلا لنفطها،بالإضافة إلى انها لن تتورع عن ان تثأر من موسكو التي اهتبلت نفس الفرصة سابقا حين ضاق الخناق على طهران بانسحاب ترامب من الاتفاق النووي .اليوم صارت امريكا الديمقراطيين ترسل رسائل متناقضة لمنطقة الخليج، فهي لا ترى ضيرا في استرضاء ايران بحيث انها متلهفة لرفع العقوبات عنها بل وسحب اسم الحرس الثوري من لائحة الارهاب . وفي نفس الآن تعتبر وقوف الخليجيين العرب من باب تحصيل الحاصل .
تستشعر دبي والرياض جيدا هذا الخذلان الأمريكي، و تعتبرانه تخليا عنهما كحليفين تقليديين لواشنطن ،ولذلك تتلكأن عليها، لتفهما كل الغرب معها ان تصالحه مع طهران لايجب ان يكون ابدا على حسابها ،بل وقد يتسبب في فقدانه لهما ،فأرض الله واسعة، وهناك قوى أخرى تشرئب بأعناقها لزعامة العالم، واللحظة لحظة تحول تاريخية،و من الممكن جدا أن تنجم عنها تحالفات جديدة قد يكون فيها الخليج العربي هذه المرة مع خصوم امريكا.
يبدو أن هناك التقاء مصالح بين الموقف الخليجي واسرائيل ،لذلك كانت قمة النقب كتكتيك لجأت اليه هذه الدول وبدرجة اقل المغرب للضغط على الولايات المتحدة ستحاول اسرائيل ان تعطيها بعدا استراتيجيا في المستقبل القريب، لحماية نفسها بعد ترحال واشنطن للصراع مع الصين في المحيطين الهادي والهندي .
في المجمل لاتريد دول الخليج واسرائيل صفقة بين امريكا وايران لاتكون حاضرة فيها .من الواضح ان هذه الدول لا تحس مع بايدن نفس الأمان الذي كانت تحس به مع ترامب،
بل ان تأثير ترامب لايزال يفعل فعله في نفوس قادة هذه الدول، حيث يقدرون أنه عائد بقوة، ولو تطلب منهم ذلك احتمال عبور صحراء لمدة ثلاث سنين عجافا ،ولذلك لايتحرجون من معاكسة خصمه بايدن ، ولو تطلب ذلك منهم احتمال عبور صحراء لثلاث سنين عجافا، هي مقامرة ،ولكنهامحسوبة،فترامب لازال حيا يرزق ،وهو يناوش باستمرار ،وعينه الآن على انتخابات الكونغرس النصفية التي قد يدق بها المسمار الأول في نعش بايدن ،والدول الخليجية الوفية له لا تريد أن تفسد عليه خطته ،وتصر هي واسرائيل على انهم يستحقون معاملة احسن، فلايهرولون الى بايدن.
هذه الدول تتذكر جيدا التواطؤ الضمني الذي كان بين ترامب وبوتين،فذلك ليس سرا مخفيا، خصوصا وأن روسيا اتهمت من الديمقراطيين بالتدخل في الانتخابات الأمريكية لإسقاط هيلاري كلينتون،و ترامب غض الطرف عن موسكو وركز كل مجهوده على محاربة بكين. كل هذه المعطيات تحيل الى ان هناك شبه تخاطر سياسي بين قادة الخليج وترامب وبوتين نظرا لالتقاء المصالح والطموحات بينهم كافراد.
وهو مايفسر بالمناسبة لماذا سارعت قطر الى ان تصبح ديمقراطية على عكس الآخرين ،لتتحول في رمشة عين لحليف رئيسي خارج حلف الناتو، ولتشمر عن غازها لمساعدة الغرب، ويشرح كذلك امتناع الإمارات عن إدانة الغزو الروسي ،وتواصل بن سلمان ببوتين، وتعاليه على بايدن، والاستقبال الحفي لوزير خارجية الامارات بموسكو، و المصافحة الباردة للابروف لوزير خارجية قطر.
كل هذه صور تعكس في غياب القناعات الإيديلوجية، تعاظم دورالانجذابات الشخصية بين القادة والرؤساء كعامل عاضد مكمل لعامل المصالح الاقتصادية الوطنية في تحشيد الدعم و تحديد الاصطفافات.
يقول ميكافيل في كتابه الأشهر الأمير،ان التهديد بالعداوة حين ينفذ دفعة واحدة، فهو يجلب لك الهيبة والاحترام ،وحينما يتم تقسيطه على مراحل، فهو مدعاة للحقد والانتقام، لذلك تهدد السعودية بالسلاح الأقصى لتنبيه واشنطن حين تلوح باعتماد اليان الصيني ،والروبل الروسي ولم لا الريال السعودي في تجارتها . وتهدد ايران في نفس الوقت ، بانها مستعدة للتحالف حتى مع اسرائيل لايقاف المد الايراني، وليس وراء الامارات والبحرين بقمة النقب إلا الرياض .لكنها تحبي ان تحذر حليفها الاقوى الذي هو امريكا الى انها ستستبسل في الدفاع عن مصالحها.ولو تطلب ذلك منها توقيع الطلاق معها. فالقضاء على روسيا حسب السعودية لايمكن أن يكون من بين اثمانه جعل الخليج فريسة لايران. ان دول الخليج ومعها مصر لاتستسيغ كيف تهب امريكا للدفاع عن الاوروبيين، بينما لاتلقي بالا لهواجس الخليجيين الذين ناصروها دائما بنفطهم ودولارهم .انهم يخافون ان يتركوا نهبا لايران.خصوصا و ان الحوثيين قد التقطوا اشارات الضعف الامريكي جيدا ،و قرروا بخبث ان يوهنوا السعودية ،ويبعثروا اوراقها التي تنفعها للضغط، فنفذوا هجمات على عجل بغية جعل الرياض تفقد تفوق المفاوضة ببترولها الذي صيروه مهددا بالنضوب نتيجة الغارات وهذا يؤهل ايران لكي تصبح طوق النجاة للغرب، ويصورها على أنها الأجدر على سد الخصاص. مما قد يكون مقابله إطلاق يدها ويد حرسها الثوري في المنطقة العربية برمتها، وهذا ما تتوجس منه دول الخليج بينما تتوجس اسرائيل من القنبلة النووية الايرانية.
عندما نبسط نظرنا الى ارض العرب من الخليج الى المحيط نجد ان هذا العالم العربي الذي يمثل 4% من سكان العالم ويستورد 35% من قمح روسيا واوكرانيا هو المتضرر الأكبر من الحرب .وان هذا العالم يرى نفسه يتحول إلى قربان للحرب ،فيطلب منه التضامن والتضحية بمصالحه، دون أن يفكر احد في تعويضه، بل يرجى منه ان يضحي لأجل ان ترضى ايران دون أن ينتبه أحد الى آلامه المزمنة ، ولذلك حين استنكر وزراء خارجية العرب في الاجتماع الوزاري للجامعة العربية مؤخرا في بيانهم الاخير تدخل ايران في الشؤون المغربية بتشجيع الانفصاليين وتدريب حزب الله لهم ،فإنها لم تكن تقوي موقف المغرب فقط ،و
بل و تستقوي بالمغرب أيضا لحماية النظام الرسمي العربي من اية تفاهمات بين ايران و واشنطن تضر بمصلحته وتزيد من اضطرابه، فالمغرب بلد أصبح له وزن إقليمي واستراتيجي واضح في التوازنات الدولية الجديدة التي اختار ان يكون فيها الى جانب الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك فحضوره خلال قمة النقب تكون لأجل تعضيد دول الخليج ومد المجال الجغرافي لتحالف هذه القمة الى المحيط الأطلسي. ولربما يكون المغرب هو اكثر من يعرف ببرجماتيته الجديدة طريقه من بين كل الدول العربية ،فقد رأينا كيف ان وزير خارجيته بوريطة تحدث عن حل الدولتين خلال القمة ،بينما نرى دول الخليج تبحث عن جبهة كبيرة خليجية مصرية إسرائيلية مغربية قد تسعى مستقبلا الى ان تضم إليها تركيا للوقوف في وجه ماتعتبره اطماعا ايرانية. رايناها أيضا تستقبل الأسد لتذكر بما سلبته منها ايران من مجال عربي .
ان عالما جديدا يتمخض ،ومعالمه لم تتبدى بعد ،وتحتاج الدول العربية الى كثير من الدهاء والواقع والبرجماتية ونفاذ البصيرة لتحسن التموقع فيه .
ولذلك تظهر دول الخليج في هذه الاونة كما لو انها تتحرك في حقل ألغام،او كأنها تخوض لعبة اوراق نرد تراهن فيها بكل شيء. ولذلك هي تحاذر، تحاول أن تتلمس،ان تنجز تقيما صحيحا للوضع ،ان تقرأ التحولات بدقة متناهية ،حتى لا تفلت الموعد مع التاريخ ،وحتى لايكون الخليج ومعه العرب ضحية مرة أخرى للنظام الدولي القادم. ان الامر متشابه جدا ،ولا يظهر بجلاء القرار الصالح من الطالح.
تقيم دول الخليج علاقات اقتصادية كبيرة مع الصين ،وقد تفكر ان تنضوي تحت لوانها، خصوصا وأن الصين كمعمل للعالم يحتاج إلى نفطها.ولكنها لا تستطيع ان تندفع كثيرا ،وهي تلمس التردد الصيني في دعم موسكو. ولذلك هي تؤخر رجلا وتقدم أخرى وأن كنت أظن أن دول الخليج لا تستطيع رغم كل هذا البرود في العلاقة ان تغادر السفينة الأمريكية وانما هي تبرهن لامريكا انها الأوثق والأضمن للمصالح الأمر يكية على المدى البعيد .ويساعدها هذا الانقسام الأمريكي في الداخل على ان تلعب هذه اللعبة دون كبير خسائر .
انها تدرك جيدا ان الاصطفافات المقبلة لن تكون صلبة جدا لانها غير ايديولوجية فكل الغرماء الكبار راسماليون.صحيح ان الصين لا تستعمل فزاعة حقوق الإنسان كالولايات المتحدة، وهو مايلائم المزاج العر بي أكثر وانها السوق الاعظم في العالم ،ولكني لا أظن أن الخليج قد يمضي الى حد مفارقة امريكا. فمالحب كما قال الشاعر الا للحبيب الأول. وما الهوى الخليجي الا لصالح النموذج الغربي في الحياة بعد ان تمكنت القوة الناعمة لامر يكا في التغلغل للبنيات الثقافية العميقة للمجتمعات العربية ،ولذلك أقصى مايطمح له العرب هو ان يفرضوا على الولايات المتحدة ان لا تبيعهم الى ايران وأن لاتضيع حقوقهم كما ضيعتها سابقا.
في مؤتمر النقب،كانت اسرائيل والخليج مصر والمغرب يتكتلون ليظهر لامريكا ماستخسره ان هي تمادت في حبها لايران، وكان بلينكين يظهر لايران ماستخسره واشنطن ان هي تساهلت مع طهران. انها سياسة القمم والصور .كل له خطاب ورسائل يحددها وفق مصالحه واسباب وجوده. فالسياسة لم تعد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ولاء لمبدا او فكرة وقد ترسخ الان هذا التوجه بفعل كورونا واوكرانيا.
كاتب مغربي