هل ستنزل المعارضة الإسرائيلية إلى الشارع بقوّة؟ عبد المجيد سويلم

ما زالت قلّة قليلة في الأوساط الجماهيرية الفلسطينية، وحتى العربية «تصدّق»، أو حتى تعتقد وتتوقع أن ينزل «الجمهور» الإسرائيلي بعشرات الآلاف للتصدي للحكومة الإسرائيلية الجديدة المرتقبة بهدف إسقاطها، وبهدف منع تدهور «الدولة» الإسرائيلية نحو الكثير من «المجهول» السياسي، ونحو ردّة ديمقراطية، ونحو «ظلامية» اجتماعية مغلّفة بالدين اليهودي، وصولاً إلى الخوف من أن يؤدي مسار التحوّل في بنية الدولة والنظام السياسي إلى دولة يهودية ليس بالمعنى السياسي، وإنما بالمعنى الديني للكلمة. وهناك فعلاً من المخاوف التي تتحدث عن [دولة الشريعة اليهودية]، وعن «داعشية» يهودية قادمة.
أما لماذا ما زلنا لا نصدّق ولا نتوقع معارضة قوية من قبل قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي لسياسات وممارسات الحكومة القادمة فهذا مردّه لعدّة أسباب:
أوّل هذه الأسباب وأهمّها ــ برأيي ــ هو عدم اليقين، وعدم رؤية عمق وطبيعة الأزمة التي تعيشها الدولة الصهيونية.
ليس هذا فحسب، وإنما، أيضاً، لا يوجد ما يكفي من اليقين بأن هذه الأزمة، حتى وإن وجدت يمكن أن ترتدّ إلى الداخل الإسرائيلي، ويمكن أن تصل التناقضات السياسية والاجتماعية والثقافية داخل المجتمع الإسرائيلي إلى مستوى الاحتجاجات العارمة، وإلى حدود خطيرة من الاحتراب الداخلي بما في ذلك بعض الأشكال العنيفة.
تولّدت لدى غالبية كبيرة منّا أن هذا المجتمع الذي ما انفكّ ينزاح نحو «اليمين»، ونحو التطرف والعنصرية السافرة لن تبلغ التعارضات فيه إلى ما هو أبعد من «التزاحم» السياسي في فترات معينة، وخصوصاً «التزاحمات» الانتخابية، والتي سرعان ما تتراجع أو تختفي أو تتلاشى مع انتهاء مواسم الانتخابات.
ويتولد هذا «الإحساس» في صورة انطباع بأن «الإجماع» الصهيوني القديم والجديد هو أقوى من كل معارضة، وأنه ليس بمقدور أي معارضة أن ترفع سقف التعارضات إلى مستوى الاحتجاجات العارمة.
وثاني هذه الأسباب، في عدم اليقين الذي أوضحناه هو أن الجمهور الفلسطيني لا يرى أن العامل الذاتي الفلسطيني هو على أي درجة من القوة أو الاستعداد، أو حتى الرغبة في «استثمار» هذه الأزمة، ناهيكم طبعاً عن هشاشة الحالة العربية، والدرجة المزرية التي وصل إليها نفاق المجتمع الدولي، وتنكّره بالكامل أو شبه الكامل لحقوقنا الوطنية من الناحية الواقعية، وازدواجية المعايير التي وصلت إلى أعلى درجات الإسفاف.
هذه العوامل لا تساعد على فهم أبعاد الأزمة الإسرائيلية، كما أنها لا تخلق البيئة الإيجابية الكافية للمراهنة على احتمالات أو توقعات كهذه.
وثالث هذه الأسباب، هو أن الجمهور الفلسطيني تحديداً، والعربي عموماً لا يلمس على أرض الواقع أي فوارق بين طرفيّ معادلة الصراع، أو أطراف هذه المعادلة عندما يتعلق الأمر بسياسات البطش والفتك المنظم ضد الشعب الفلسطيني على كل المستويات والصُّعُد.
لكلّ هذه الأسباب، ولأسبابٍ أخرى كثيرة فإن أزمة الدولة، وأزمة النظام السياسي في إسرائيل لا تبدو بالأهمية التي هي عليها في الواقع، وبالدرجة التي وصلت لها، وبالأبعاد والتبعات التي تنطوي عليها.
أما الحقيقة ــ كما أرى ــ فهي في الجانب الآخر من الصورة التي تتولّد لدينا على هيئة انطباعات وأحاسيس حيال هذه الأزمة.
الجانب الآخر هو أن التحولات في طبيعة الدولة ونظامها السياسي كانت حتى اليوم مجرد «تعهُّدات» سياسية في برامج بعض القوى اليمينية الغارقة في تطرفها وعنصريتها، وفي معاداتها للديمقراطية، أيضاً، وكانت هذه «التحولات» مجرد أهدافٍ بعيدة تنادي بها القوى «اليمينية» و»تسكت» عنها القوى الأخرى، بما في ذلك قطاعات واسعة نسبياً من «اليمين»، بل وحتى بعض القوى من «الوسط» و»اليسار» أحياناً.
أما اليوم، فقد تمكنت هذه القوى المتطرفة والعنصرية من تحويل الدين اليهودي إلى مكوّن سياسي عضوي (تديين السياسة)، وأصبحت على مشارف الإمساك الكامل بمؤسسات الجيش والأمن من خلال تحويلهما إلى مؤسسات قابلة للمحاصصة، وباتت تتحدث عن خطط قصيرة وطويلة الأمد لترويض مؤسسة القضاء.
أقصد أن تحويل الدولة والنظام السياسي إلى موضوع للتقاسم والاقتسام، وبما يصل إلى انتزاع الصلاحيات «السيادية» و»القومية الجامعة» من مؤسسات الدولة ومؤسسات هذا النظام.. إن هذه العملية تجري اليوم على قدمٍ وساق، وهي عملية ما زالت في بداياتها الأولى، ويتم التمهيد «القانوني» لها من خلال مؤسسة الكنيست لكي يصار رويداً رويداً إلى تحويلها إلى وضع سياسي جديد يغير في طبيعة الدولة جوهرياً.
يستحيل أن تتم هذه العملية من دون تحويل المؤسسات الديمقراطية في الدولة وفي النظام السياسي إلى «محمية» سياسية، شأنها في ذلك شأن «المحميات» الأخرى.
هذه العملية بالذات، والتي تتم الآن هي انقلاب شامل وجذري من حيث الجوهر، بصرف النظر عن المظهر مؤقتاً، وهي التي ستحول «الدولة» في إسرائيل إلى دولة «سلطوية» ضد قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي.
ولأن الحالة السياسية في إسرائيل هي على درجة عالية من الديناميكية والتغيّر وسرعة الحراك والانتقال بين القوى والأحزاب والكتل، فإن من شأن هذه «السلطوية» أن تؤدي بسرعة، وربما قريباً إلى انزياحات وانحيازات جديدة تتبلور في صورة احتجاجات جارفة. علينا أن نصدق ذلك، وأن نعي ذلك، ونعرف كيف نستثمر فيه، بل وعلينا ألا تسقط الرهان عليه على المدى الأبعد.
ولأن مسألة حقوق الشعب الفلسطيني ليست هي المحرّك الأساسي في هذه الحركات المرتقبة، ولأن الغالبية من القوى السياسية في إسرائيل ما زالت عاجزة عن رؤية الصلة المباشرة بين هذه التحولات في بنية الدولة وبنية النظام السياسي في إسرائيل من جهة وبين غياب هذه الحقوق من برامج المعارضة الإسرائيلية لتلك التحولات فإن من الأفضل أن تلعب المعارضة دورها ضد الفاشية والعنصرية من مواقعها الإسرائيلية اليهودية دون الحاجة إلى الداخل العربي الفلسطيني لأي صيغ موحّدة أو مشتركة مع هذه المعارضة، ومع الاستعداد إلى أعلى درجات التنسيق المشترك وليس الاندماج في صيغة سياسية موحّدة، أو في جبهة واحدة، أو تحالفٍ منظم.
هذا أفضل في المرحلة الحالية للمعارضة الإسرائيلية نفسها، وهذا أفضل كثيراً للحركة الوطنية في الداخل الفلسطيني.
المهم أن ما يجري يهمّ الجميع فعلاً، ولكن كل من موقعه، ومن وحي مصالحه وبرامجه، لأن شعبنا في «الداخل»، إضافة إلى مسألة الديمقراطية المهددة فعلاً في إسرائيل فإنه قبل كل شيء له قضية وطنية، وله أهداف قومية بصرف النظر عن درجة انحدار الديمقراطية في إسرائيل.